قوله تعالى :{ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض } أي : ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى { إلا من شاء الله } اختلفوا في الذين استثناهم عز وجل ، وقد ذكرناهم في سورة النمل . قال الحسن : إلا من شاء الله يعني الله وحده : { ثم نفخ فيه } أي : في الصور { أخرى } أي : مرة أخرى { فإذا هم قيام ينظرون } من قبورهم ينتظرون أمر الله فيهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد ابن معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون قالوا : أربعون يوماً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال :أبيت ، قال : ثم ينزل الله من السماء ماء ، فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب ومنه يتركب الخلق يوم القيامة " .
ثم بين - سبحانه - حال الناس عند النفخة الأولى والثانية فقال : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } .
والصور : اسم للقرن الذى ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله - تعالى - وحقيقته لا يعلمها إلا هو - سبحانه - وقوله { فَصَعِقَ } من الصعق بمعنى الموت أو بمعنى الصوت الشديد الذى يجعل الإِنسان فى حالة ذهول شديد حتى لكأنه قد فارق الحياة .
أى : ونفخ فى الصور بأمر الله - تعالى - النفخة الأولى ، فخر ميتا كل من كان حيا فى السموات أو فى الأرض .
{ إِلاَّ مَن شَآءَ الله } له الحياة من أهلهما ، قالوا : والمستثنى من الصعق جبريل وإسرافيل وميكائيل . ولم يرد حديث صحيح يعتمد عليه فى تعيين من استثناه الله - تعالى - : من ذلك ، فالأولى تفويض من استثناه الله من الصعق إلى علمه - عز وجل - .
{ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } أى : ثم نفخ فى الصور نفخة أخرى - وهى النفخة الثانية التى يكون بعدها البعث والنشور .
{ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أى : فإذا بهؤلاء الذين صعقوا بعد النفخة الأولى قيام من قبورهم ، ينظرون حولهم بدهشة وحيرة ماذا يفعل بهم ، أو ينظرون على أى حال يكون مصيرهم .
فالآية الكريمة تفيد أن النفخ فى الصور يكون مرتين : المرة الأولى يكون بعدها الصعق والموت لجميع الأحياء ، والنفخة الثانية يكون بعدها البعث والنشور وإعادة الحياة مرة أخرى .
ثم يأخذ في مشهد من مشاهد القيامة يبدأ بالنفخة الأولى ، وينتهي بانتهاء الموقف ، وسوق أهل النار إلى النار . وأهل الجنة إلى الجنة . وتفرد الله ذي الجلال . وتوجه الوجود لذاته بالتسبيح والتحميد .
وهو مشهد رائع حافل ، يبدأ متحركاً ، ثم يسير وئيداً ، حتى تهدأ كل حركة ، وتسكن كل نأمة ، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت ، ورهبة الخشوع ، بين يدي الله الواحد القهار !
ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث ، فيصعق من يكون باقياً على ظهر الأرض من الأحياء ، ومن في السماوات كذلك - إلا من شاء الله - ولا نعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الثانية :
( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) . .
ولا تذكر الصيحة الثالثة هنا . صيحة الحشر والتجميع . ولا تصور ضجة الحشر وعجيج الزحام . لأن هذا المشهد يرسم هنا في هدوء ، ويتحرك في سكون .
{ ونفخ في الصور } يعني المرة الأولى . { فصعق من في السموات ومن في الأرض } خر ميتا أو مغشيا عليه . { إلا من شاء الله } قيل جبريل ومكائيل وإسرافيل فإنهم يموتون بعد . وقيل حملة العرش . { ثم نفخ فيه أخرى } نفخة أخرى وهي تدل على أن المراد بالأولى ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع ، وأخرى تحتمل النصب والرفع . { فإذا هم قيام } قائمون من قبورهم أو متوقفون ، وقرئ بالنصب على أن الخبر { ينظرون } وهو حال من ضميره والمعنى : يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم .
انتقال من إجمال عظمة القدرة يوم القيامة إلى تفصيلها لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال يومئذٍ مما ينذر الكافر ويبشر المؤمن ويذكر بإقامة العدل والحق ، ثم تمثيل إزجاء المشركين إلى جهنم وسوق المؤمنين إلى الجنة .
فالجملة من عطف القصة على القصة ، ومناسبة العطف ظاهرة ، وعبر بالماضي في قوله : { ونُفِخَ } وقوله : فَصَعِقَ مجازاً لأنه محقق الوقوع مثل قوله : { أتى أمر اللَّه } [ النحل : 1 ] ، ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير ( قد ) أي والحال قد نفخ في الصور ، فتكون صيغة الماضي في فعلي ( نفخ وصَعق ) مستعملة في حقيقتها . وابتدئت الجملة بحديث النفخ في الصور إذ هو ميقات يوم القيامة وما يتقدمه من موت كل حي على وجه الأرض . وتكرر ذكره في القرآن والسنة .
والصور : بوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش ، ومثل النداء للصلاة فقد كان اليهود ينادون به : للصلاة الجامعة ، كما جاء في حديث بدء الأذان في الإسلام . والمراد به هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحيائِهم وأَمواتِهم ، وتقدم عند قوله : { يوم ينفخ في الصور } في الأنعام ( 73 ) . وهو علامة لأمر التكوين ، فالأحياء يصعقون فيموتون ( كما يموت المفزوع ) بالنفخة الأولى ، والأموات يصعقون اضطراباً تدبّ بسببه فيهم الحياة فيكونون مستعدين لقبول الحياة ، فإذا نفخت النفخة الثانية حلّت الأرواح في الأجساد المخلوقة لهم على مثال ما بَلي من أجسادهم التي بليت ، أو حلّتْ الأرواح في الأجساد التي لم تزل باقية غير بالية كأجساد الذين صعقوا عند النفخة الأولى ، ويجوز أن يكون بين النفختين زمن تبلَى فيه جميع الأجساد .
والاستثناء من اسم الموصول الأول ، أي إلا مَن أراد الله عدم صعقه وهم الملائكة والأرواح ، وتقدم في سورة النمل ( 87 ) { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض } .
و { ثم } تؤذن بتراخي الرتبة لأنها عاطفة جملة ، ويجوز أن تفيد مع ذلك المهلَةَ المناسبة لما بين النفختين . و { أُخْرى } صفة لمحذوف ، أي نفخة أخرى ، وهي نفخة مُخالفٌ تأثيرُها لتأثير النفخة الأولى ، لأن الأولى نفخة إهلاك وصعق ، والثانية نفخة إحياء وذلك باختلاف الصوتين أو باختلاف أمرَيْ التكوين . وإنما ذكرت النفخة الثانية في هذه الآية ولم تذكر في قوله في سورة النمل ( 87 ) { ويوم ينفخ ( 1 ) في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه وكل أتوه داخرين } لأن تلك في غرض الموعظة بفناء الدنيا وهذه الآية في غرض عظمة شأن الله في يوم القيامة ، وكذلك وصف النفخة بالواحدة في سورة الحاقة ( 13 ، 15 ) { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة } وذكرت هنا نفختان .
وضمير { هُم } عائد على { من في السموات ومن في الأرض } فيما بقي من مفهومه بعد التخصيص ب { إلا مَن شاء الله } وهم الذين صعقوا صعق ممات وصَعْق اضطراب يهيأ لقبول الحياة عند النفخة .
و { إذا } للمفاجأة للتنبيه على سرعة حلول الحياة فيهم وقيامهم إثره و { قيام } جمع قائم .
وجملة { يَنظُرُونَ } حال . والنظرُ : الإِبصار ، وفائدة هذه الحال الدلالة على أنهم حَيُوا حياة كاملة لا غشاوة معها على أبصارهم ، أي لا دهش فيها كما في قوله تعالى : { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون } في سورة الصافات ( 19 ) ، أو أريد أنهم ينظرون نظر المقلّب بصره الباحث . ويجوز أن يكون من النظرة ، أو الانتظار .