قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } . قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد ، قد أصابهم ما أصابهم ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله تعالى ( ولقد صدقكم الله وعده ) . بالنصر والظفر ، وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء .
قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين ، وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم " احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " . وأقبل المشركون ، فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل ، والمسلمون يضربونهم بالسيوف ، حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إذ تحسونهم بإذنه ) أي تقتلونهم قتلاً ذريعاً بقضاء الله . قال أبو عبيدة : الحس : الاستئصال بالقتل .
قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } . أي إن جبنتم ، وقيل : معناه فلما فشلتم .
قوله تعالى : { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } . فالواو زائدة في وتنازعتم ، يعني إذا فشلتم تنازعتم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون ، فقال بعضهم : انهزم القوم فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة . فلما رأى خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صباً ، وانقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس : أن محمداً قد قتل ، فكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين . قوله تعالى ( وعصيتم ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره .
قوله تعالى : { من بعد ما أراكم } . الله .
قوله تعالى : { ما تحبون } . يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة .
قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } . يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب .
قوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } . يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا ، قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { ثم صرفكم عنهم } . أي ردكم عنهم بالهزيمة .
قوله تعالى : { ليبتليكم } . ليمتحنكم ، وقيل : لينزل البلاء عليكم .
قوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } . فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة منكم لأمر نبيكم .
ثم ذكر الله - تعالى - المؤمنين بما حدث لهم في غزوة أحد ، وكيف أنهم انتصروا على أعدائهم فى أول معركة ، ثم كيف أنهم أصيبوا بالهزيمة بعد ذلك بسبب فشلهم وتنازعهم ومعصيتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم ، ثم صور - سبحانه - أحوالهم فى هذه المعركة تصويرا بليغا مؤثرا وحكى أقوال ضعاف الإيمان ورد عليها بما يدحضها . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك فيقول : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ . . . } .
قال القرطبى : قال محمد بن كعب القرظى : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد ، وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فنزل قوله - تعالى - { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } الآية .
وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء ، وكان الظفر ابتداء للمسلمين ، غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة وترك بعض الرماة أيضاً مراكزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة .
وقد روى البخارى عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : " لا تبرحوا من مكانكم . إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا " .
قال : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددت الجبل - أى يسرعن الفرار - يرفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن . فجعلوا يقولون - أى الرماة - " الغنيمة . . الغنيمة " فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير . أمهلوا . أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا أماكنكم ؟ فأبوا - وانطلقوا لجمع الغنائم - فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا " .
وصدق الوعد معناه : تحقيقه والوفاء به ، الصدق مطابقة الخبر للواقع . والمراد بهذا الوعد ، ما وعد الله به المؤمنين من النصر والظفر فى مثل قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وفى مثل قوله - تعالى - { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وفى مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للرماة قبل أن تبدأ المعركة " لا تبرحوا أماكنكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " .
ومعنى " تحسونهم تقتلونهم قتلا شديدا يفقدون معه حسهم وحركتهم . يقال : حسه حسا إذا قتله . وحقيقته : أصاب حاسته بآفة فأبطلها ، يقال : كبده وفأده أى : أصاب كبده وفؤاده . ومنه جراد محسوس ، وهو الذى قتله البرد أو مسته النار فأهلكته .
والمعنى : ولقد حقق الله - تعالى - لكم - أيها المؤمنون - ما وعدكم به من النصر على أعدائكم إذ إيدكم فى أول معركة أحد بعونه وتأييده فصرتم تقتلون المشركين قتلا ذريعا شديدا بإذنه وتيسيره ورعايته وكان حليفا لكم فى أول المعركة .
و " صدق " يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر تقول : صدقت زيداً فى الحديث . وقد يتعدى بنفسه إلى مفعولين كما هنا إذ المفعول الأول ضمير المخاطبين ، والثانى قوله { وَعْدَهُ } .
وقوله { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لصدقكم أى صدقكم فى هذا الوقت وهو وقت قتلهم وقوله " بإذنه " متعلق بمحذوف لأنه حال من فاعل " تحسونهم " أى تقتلونهم مأذونا لكم فى ذلك .
فالجملة الكريمة تذكر المؤمنين بما كان من نصر الله - تعالى - لهم عندما أقبلوا على معركة أحد بقلوب مخلصة ، ونفوس ثابتة وعزيمة صادقة . . ثم بين - سبحانه - أن ما أصابهم من هزيمة بعد ذلك كان بسبب فشلهم وتنازعهم فقال - تعالى - : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } .
والفشل : بمعنى الجبن والضعف ، يقال فشل يفشل فهو فشل وفاشل والتنازع : التخاصم والتحالف .
والمعنى : ولقد صدقكم الله وعده فى النصر - أيها المؤمنون - عندما كنتم تقاتلون أعداءكم بإيمان صادق ، وإخلاص الله - تعالى - حتى إذا ضعفت نفوسكم وعجزتم عن مقاومة أهوائكم وتنازعتم فيما بينكم ( أنتبع الغنائم نجمعها أم نبقى فى أماكننا التى حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ) ؟ ومال أكثركم إلى طلب الغنائم مخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما أراكم الله فى أول المعركة من نصر مؤزر تحبونه وترجونه ، ومن مغانم تتطلعون إليها بلهفة وشوق .
حتى إذا فعلتم ذلك منع الله - تعالى - عنكم نصره ، وتحول نصركم إلى هزيمة وفقدتم أنفسكم وما جمعتموه من غنائم .
وهكذا نرى أن ما أصاب المسلمين فى أحد من هزيمة كان بسبب فشل بعضهم وتنازعهم وعصيانهم أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وصدق الله إذ يقول : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ولقد رتب الله - تعالى - ما حدث من بعض المؤمنين فى غزوة أحد ترتيباً دقيقاً ، يتفق مع ما حصل منهم وذلك لأنهم حدث منهم - أولا - الفشل بمعنى العجز النفسي عن الثبات والصبر . ثم ترتب على ذلك أن تنازعو فيما بينهم ونتج عن هذا التنازع أن ترك معظمهم مكانه ونزل إلى ميدان المعركة لجمع المغانم ، ثم ترتب على كل ذلك معصيتهم لأمر رسولهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } فى حتى هذه قولان :
أحدهما : أنها حرف جر بمعنى إلى وفى متعلقها حينئذ ثلاثة أوجه .
أحدها : أنها متعلقة بقوله : { تَحُسُّونَهُمْ } أى تقتلونهم إلى هذا الوقت .
والثانى : أنها متعلقة " بصدقكم " أى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم . والثالث : أنها متعلقة بمحذوف دل عليه السياق تقديره : ودام لكم ذلك إلى وقت فشلكم .
والقول الثانى : أنها حرف ابتداء داخلة على الجملة الشرطية { إِذَا } على بابها من كونها شرطية ، والصحيح أن جوابها محذوف أى حتى إذا فشلتم وتنازعتم منع الله عنكم نصره " .
وقال الفخر الرازى : فإن قيل ما الفائدة فى قوله { بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ؟
فالجواب عنه : أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم . وقوله { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } تفصيل للتنازع الذى كان بين الرماة ، أو بين بعض أفراد المسلمين الذين اشتركوا فى هذه الغزوة .
أى : منكم - أيها المسلمون - من يريد الدنيا ومغانمها حتى حمله ذلك على ترك مكانه المخصص له مخالفا نصيحة قائده ورسوله صلى الله عليه وسلم ولو أن هذا البعض منكم خالف هواه ، وحارب مطامعه ، وأطاع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لتم لكم النصر ، ولأتتكم الدنيا بغنائمها وهيى صاغرة .
ومنكم من يريد بجهاده وعمله ثواب الآخرة وهم الذين أطاعوا أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه يدافعون عنه وعن عقيدتهم وعن أنفسهم دفاع الأبطال الصامدين وهؤلاء هم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم ما يسعدهم فى دنياهم وآخرتهم .
قال ابن جرير : قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أحد ، قال الرماة : أدركوا الناس لا يسبقوكم إلى الغنائم فتكون لهم دونكم ، وقال بعضهم : لا نريم حتى يأذن لنا النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } .
وقال ابن مسعود : ما علمنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد " .
وقوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } عطف على جواب " إذا " المقدر ، وما بينهما اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه .
والتقدير : منع الله نصره عنكم بسبب فشلكم وتنازعكم ومعصيتكم لنبيكم ثم ردكم عنهم دون أن تنالوا ما تبتغون { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أى ليعاملكم الله - تعالى - معاملة من يمتحن غيره ، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه وليتبين لكم الصابر المخلص من غيره .
وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } للإشعار بالتفاوت الكبير بين المقصد الأصلى الذى خرجوا من أجله وهو النصر والحصول على الغنيمة وبين النتيجة التى انتهوا إليها وهى العودة مقهورين .
وكان التعبير بكلمة { صَرَفَكُمْ } دون كلمة " هزمتم " لأن ما حدث فى أحد لم يكن هزيمة وإن لم يكن نصراً . لأن الهزيمة تقتضى أن يولى المسلمون الأدبار وأن يتحكم فيهم أعداؤهم وما حدث فى أحد لم يكن كذلك ، وإنما كان زيادة فى عدد الشهداء من المسلمين عن عدد القتلى من المشركين لأن بعض المسلمين خالفوا وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى زهرة الدنيا وزينتها بطريقة تتعارض مع ما يقتضيه الإيمان الصادق فكان من الله - تعالى - التأديب لهم .
. وفى هذا التعبير { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } تسلية لهم عما أصابهم ، وتخفيف لمصابهم فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما حدث فى أحد إنما هو نوع من الصرف عن الغاية التى من أجلها خرجتم لحكم من أهمها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتربيتكم على تحمل المصائب والآلام ، وتأديبكم بالأدب المناسب حتى لا تعودوا مرة أخرى إلى مخالفة رسولكم صلى الله عليه وسلم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يمسح آلامهم ويذهب الحسرة من قلوبهم فقال - تعالى - { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } .
أى : ولقد عفا - سبحانه - عما صدر منكم تفضلا منه وكرما ، والله تعالى هو صاحب الفضل المطلق الدائم على المؤمنين .
ولقد أكد - سبحانه - هذا العفو باللام وبقد وبالتعبير بالماضى ، ليفتح أمامهم طريق الأمل ، وليحفزهم على التوبة الصادقة والإيمان العميق ، حتى لا ييأسوا من رحمة الله .
والتذييل بقوله { ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } مؤكد لمضمون ما قبله .
قال الآلوسى : " إيذان بأن ذلك العفو ، ولو كان بعد التوبة ، بطريق التفضل لا الوجوب أى : شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو فى جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم ، إذ الابتلاء أيضاً رحمة " .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المؤمنين بأن الله - تعالى - قد حقق وعده معهم فى أول المعركة بأن سلطهم على المشركين يقتلونهم بتأييده ورعايته قتلا ذريعا فلما صدر من بعض المؤمنين الفشل والتنازع والعصيان منع الله عنهم عونه وصرفهم عن الغاية التى كانوا يتمنونها ليتميز الخبيث من الطيب ومع ذلك فقد عفا الله عما صدر منهم من أخطاء لأنه هو صاحب الفضل الدائم على المؤمنين .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار ، وتركوا وراءهم الغنائم ، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ؛ وتنازعوا فيما بينهم ، وخالفوا عن أمر رسول الله [ ص ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها ، في حيوية عجيبة :
( ولقد صدقكم الله وعده ، إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ، فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم ) . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة ، ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان ، ولا خاطرة في النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر ، إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل ، والهروب في دهش وذعر ، ودعاء الرسول [ ص ] للفارين المرتدين عن المعركة ، المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس ، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة ، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ، ومنهج القرآن التربوي العجيب :
( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) . .
وكان ذلك في مطالع المعركة ، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين ، أي يخمدون حسهم ، أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ ص ] قد قال لهم : " لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [ ص ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين : فريقا يريد غنيمة الدنيا ، وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ، ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله ، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها ، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ، فلا يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة ، وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة ، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب ، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ ص ] يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أحد : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره ، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة :
( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) . .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين ، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل ، وصرف المقاتلين عن الميدان ، فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ، ومن تمحيص النفوس ، وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها ، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب ، ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة ، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله ، والاستسلام له ، وتسليم قيادكم لمشيئته :
( والله ذو فضل على المؤمنين ) . .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ، ما داموا سائرين على منهجه ، مقرين بعبوديتهم له ؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم ، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ، ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
{ ولقد صدقكم الله وعده } أي وعده إياكم بالنصر بشرط التقوى والصبر ، وكان كذلك حتى خالف الرماة فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم بالنبل والباقون يضربونهم بالسيف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم . { إذ تحسونهم بإذنه } تقتلونهم ، من حسه إذا أبطل حسه . { حتى إذا فشلتم } جبنتم وضعف رأيكم ، أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل . { وتنازعتم في الأمر } يعني اختلاف الرماة حين انهزم المشركون فقال بعضهم فما موقفنا ها هنا ، وقال آخرون لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه أميرهم في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهب وهو المعني بقوله : { وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } من الظفر والغنيمة وانهزام العدو ، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم ، { منكم من يريد الدنيا } وهم التاركون المركز للغنيمة . { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الثابتون محافظة على أمر الرسول عليه السلام . { ثم صرفكم عنهم } ثم كفكم عنهم حتى حالت الحال فغلبوكم . { ليبتليكم } على المصائب ويمتحن ثباتكم على الإيمان عندها . { ولقد عفا عنكم } تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة . { والله ذو فضل على المؤمنين } يتفضل عليهم بالعفو ، أو في الأحوال كلها سواء أديل لهم أو عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة .
جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين ، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم ، ولذلك وجوه من الفصاحة : منها وعظ الجميع وزجره ، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر ، ومنها الستر والإبقاء على من فعل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله تعالى -إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولاً ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أُحد ، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين ، وحمل الزبير وأبو دجانة{[3611]} فهزّا عسكر المشركين ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن ابي الأقلح ، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً فهذا معنى قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } والحس : القتل الذريع ، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً ، وحس البرد النبات وقال رؤبة : [ الرجز ]
إذا تَشَكَّوْا سُنَّةً حَسُوسا . . . تَأْكُلُ بَعْدَ الأَخْضَرِ الْيَبِيسا{[3612]}
قال بعض الناس : هو مأخوذ من الحاسة ، والمعنى في حس : أفسد الحواس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، و «الإذن » : التمكين مع العلم بالممكن منه ، وقوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } يحتمل أن تكون { حتى } غاية مجردة ، كأنه قال : إلى أن فشلتم ، ويقوي هذا أن { إذا } بمعنى «إذ » لأن الأمر قد كان تقضى ، وإنما هي حكاية حال ، فتستغني { إذا } على هذا النظر عن جواب ، والأظهر الأقوى أن { إذا } على بابها تحتاج إلى الجواب ، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل ، واختلف النحاة في جواب { إذا } فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله { تنازعتم } ، والواو زائدة{[3613]} ، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال : الجواب قوله : { صرفكم } و { ثم } زائدة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه ، والخليل وفرسان الصناعة ، إن الجواب محذوف مقدر ، يدل عليه المعنى ، تقديره : انهزمتم ونحوه ، و «الفشل » - استشعار العجز وترك الجد ، وهذا مما فعله يومئذ قوم ، و «التنازع » هو الذي وقع بين الرماة ، فقال بعضهم : الغنيمة الغنيمة ، الحقونا بالمسلمين ، وقال بعضهم : بل نثبت كما أمرنا { وعصيتم } عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين ، وقوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } يعني من هزم القوم ، قال الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة{[3614]} وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم ، وقوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم ، قاله ابن عباس وسائر المفسرين ، وقال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد { منكم من يريد الدنيا } وقوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } إخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالاً للأمر حتى قتلوا ، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين ، وقوله تعالى : { ليبتليكم } معناه : لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص ، وقوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل ، وهذا تحذير ، والمعنى «ولقد عفا عنكم » بأن لم يستأصلوكم ، فهو بمنزلة : ولقد أبقى عليكم ، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد ، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد ، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين ، وقال الحسن بن أبي الحسن : قتل منهم سبعون ، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم ، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم .
{ ولقد صدقكم } عطف على قوله : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ( التَّاريخ يعيد نفسه ) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] .
وصِدق الوعد : تحقيقُه والوفاءُ به ، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد . قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة [ الأحزاب : 23 ] : { من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } يقال : صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأمَّا المثَل ( صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه ) فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل . فنصب { وعدَه } هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقَكم في وعده ، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى .
والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله : { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] أو بخبر خاصّ في يوم أحُد .
وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب .
و ( إذ ) في قوله : { إذ تحسونهم } نصب على الظرفية لقوله : { صدقكم } أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر ، و ( إذْ ) فيه للمضيّ ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي .
والحَسّ بفتح الحاء القَتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقَيّده في « الكشاف » بالقتل الذريع ، وهو أصوب .
وقوله : { حتى إذا فشلتم } ( حتَّى ) حرف انتهاء وغاية ، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم .
و ( حتَّى ) هنا جارّة و ( إذا ) مجرور بها .
و ( إذا ) اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا ، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله : { تحسونهم } .
و ( إذا ) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله : { منكم من يريد الدنيا } إلى آخرها .
والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه .
والتعريف في قوله : { في الأمر } عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم .
ومعنى { من بعد ما أراكم ما تحبون } أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم . والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم .
والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من ( فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم ) ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب ( إحدى الحسنيين ) ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : { ولقد عفا عنكم } .
وقوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة } تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل ( عصيتم ) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الَّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : { وتنازعتم في الأمر } وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة .
والمراد بقوله : { منكم من يريد الدنيا } إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً ، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط .
وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوَّلين ، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه ، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول .
وإنَّما قال : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه .
وعُقب هذا الملام بقوله : { ولقد عفا عنكم } تسكيناً لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى .
وفي تذييله بقوله : { والله ذو فضل على المؤمنين } تأكيد ما اقتضاه قوله : { ولقد عفا عنكم } والظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التَّوبة ، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه}، يعني تقتلونهم بإذنه يوم أحد، ولكم النصر عليهم، {حتى إذا فشلتم}، يعني ضعفتم عن ترك المركز، {وتنازعتم في الأمر وعصيتم} كان تنازعهم أنه قال بعضهم: ننطلق فنصيب الغنائم، وقال بعضهم: لا نبرح المركز كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، {من بعد ما أراكم ما تحبون} من النصر على عدوكم، فقتل أصحاب الألوية من المشركين، {منكم من يريد الدنيا} الذين طلبوا الغنيمة، {ومنكم من يريد الآخرة} الذين ثبتوا في المركز حتى قتلوا، {ثم صرفكم عنهم} من بعد أن أظفركم عليهم، {ليبتليكم} بالقتل والهزيمة، {ولقد عفا عنكم} حيث لم تقتلوا جميعا عقوبة بمعصيتكم، {والله ذو فضل} في عقوبته {على المؤمنين} حيث لم يقتلوا جميعا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله تعالى ذكره: ولقد صدقكم الله أيها المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأُحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والوعد الذي كان وعدهم على لسانه بأُحد قوله للرماة: «اثْبُتُوا مَكانَكُمْ وَلا تَبْرَحُوا وَإنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ، فإنّا لَنْ نَزاَلَ غالبينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ»، وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره...
القول في تأويل قوله تعالى: {إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ}. يعني تعالى ذكره بذلك: ولقد وفى الله لكم أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعدكم من النصر على عدوّكم بأحُد، حين تحسّونهم، يعني: حين تقتلونهم. يقال منه: حَسّهُ يَحُسّهُ حَسّا: إذا قتله...
وأما قوله: {بإذْنِهِ} فإنه يعني: بحكمي وقضائي لكم بذلك وتسليطي إياكم عليهم...
{حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أراكُمْ ما تُحِبّونَ}. يعني بقوله جلّ ثناؤه: {حتى إذَا فَشِلْتُمْ}: حتى إذا جبنتم وضعفتم، {وتَنازَعتمْ في الأمْرِ} بقول: واختلفتم في أمر الله، يقول: وعصيتم وخالفتم بنيكم، فتركتم أمره، وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بأُحد، بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين الذين ذكرنا قبلُ أمرهم. وأما قوله: {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ} فإنه يعني بذلك: من بعد الذي أراكم الله أيها المؤمنون بمحمد من النصر والظفر بالمشركين، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فيها، وقبل خروج خيل المشركين على المؤمنين من ورائهم... وقيل: معنى قوله: {حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ} حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون أنه من المقدّم الذي معناه التأخير، وإن الواو دخلت في ذلك، ومعناها: السقوط كما قلنا في: {فَلَمّا أسْلَما وَتَلّهُ للْجَبِينِ وَنادَيْناهُ} معناه: ناديناه، وهذا مقول في «حتى إذا» وفي «فلما أنْ»، ومنه قول الله عزّ وجلّ: {حتى إذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ} ثم قال: {وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقّ} ومعناه: اقترب...
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا}: الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من أحد لخيل المشركين، ولحقوا بمعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} يعني بذلك: الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعوا أمره، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم، والدار الآخرة...
{ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: ثم صرفكم أيها المؤمنون عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم، وفي أنفسكم من هزيمتكم إياهم، وظهوركم عليهم، فردّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي، ومخالفتكم طاعته، وإيثاركم الدنيا على الاَخرة، عقوبة لكم على ما فعلتم، ليبتليكم، يقول: ليختبركم، فيتميز المنافق منكم من المخلص، الصادق في إيمانه منكم...
{وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِين}. يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ}: ولقد عفا الله أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتاركون طاعته، فيما تقدم إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرف وجوهكم عنهم إذ لم يستأصل جمعكم... وأما قوله: {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِينَ} فإنه يعني: والله ذو طول على أهل الإيمان به وبرسوله بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم، فإن عاقبهم على بعض ذلك، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم قتلا ذريعاً سريعاً شديداً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وعدهم الله النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 125] ويجوز أن يكون الوعد قوله تعالى: {سَنُلْقِى في قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فلما فشلوا وتنازعوا لم يرعبهم. وقيل: لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من المؤمنين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت. وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره، واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. يحسونهم أي يقتلونهم قتلا ذريعاً. حتى إذا فشلوا. والفشل: الجبن وضعف الرأي. وتنازعوا، فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما موقفنا ههنا وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فممن ثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله: {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} ونفر أعقابهم ينهبون، وهم الذين أرادوا الدنيا، فكرّ المشركون على الرماة، وقتلوا عبد الله بن جبير رضي الله عنه، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح دبوراً وكانت صباً، حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا، وهو قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} لما علم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} يتفضل عليهم بالعفو، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم؛ لأنّ الابتلاء رحمة كما أنّ النصرة رحمة. فإن قلت: أين متعلق {حتى إِذَا} قلت: محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم منعكم نصره. ويجوز أن يكون المعنى: صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه من الفصاحة: منها وعظ الجميع وزجره، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر، ومنها الستر والإبقاء على من فعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله تعالى -إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولاً، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أُحد، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين، وحمل الزبير وأبو دجانة فهزّا عسكر المشركين، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن أبي الأقلح، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً، فهذا معنى قوله تعالى: {إذ تحسونهم بإذنه} والحس: القتل الذريع، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً..
. و «التنازع» هو الذي وقع بين الرماة، فقال بعضهم: الغنيمة الغنيمة، الحقونا بالمسلمين، وقال بعضهم: بل نثبت كما أمرنا {وعصيتم} عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين، وقوله تعالى: {من بعد ما أراكم ما تحبون} يعني من هزم القوم، قال الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم.
وقوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا} إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم، قاله ابن عباس وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن مسعود: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد {منكم من يريد الدنيا} وقوله تعالى: {ومنكم من يريد الآخرة} إخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالاً للأمر حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين، وقوله تعالى: {ليبتليكم} معناه: لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص، وقوله تعالى: {ولقد عفا عنكم} إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل، وهذا تحذير، والمعنى «ولقد عفا عنكم» بأن لم يستأصلوكم، فهو بمنزلة: ولقد أبقى عليكم، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين، وقال الحسن بن أبي الحسن: قتل منهم سبعون، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{إذ تحسونهم بإذنه} تقتلونهم، من حسه إذا أبطل حسه. {حتى إذا فشلتم} جبنتم وضعف رأيكم، أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل... {ثم صرفكم عنهم} ثم كفكم عنهم حتى حالت الحال فغلبوكم. {ليبتليكم} على المصائب ويمتحن ثباتكم على الإيمان عندها. {ولقد عفا عنكم} تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة. {والله ذو فضل على المؤمنين} يتفضل عليهم بالعفو، أو في الأحوال كلها سواء أديل لهم أو عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{وعصيتم} أي: خالفتم ما أمرتم به من الثبوت، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالف بعضهم وعظا للجميع، وسترا على من فعل ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت السين في {سنلقي} مفهمة للاستقبال كان ذلك ربما أوهم أنه لم يرغبهم فيما مضى، فنفى هذا الوهم محققاً لهم ذلك بتذكيرهم بما أنجز لهم من وعده في أول هذه الوقعة مدة تلبسهم بما شرط عليهم من الصبر والتقوى بقوله تعالى -عطفاً على قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا} [آل عمران: 125]، مصرحاً بما لوح إليه تقديراً قبل {ولقد نصركم الله ببدر} [آل عمران: 123] كما مضى -: {ولقد صدقكم الله وعده} أي في قوله {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم} [آل عمران: 120] {إذ تحسونهم} أي تقتلونهم بعضهم بالفعل والباقين بالقوة التي هيأها لكم {بإذنه} فإن الحسن بالفتح: القتل والاستئصال- قاله في القاموس. ثم بين لهم سبب هزيمتهم بعد تمكينه منهم ليكون رادعاً لهم عن المعاودة إلى مثله فقال مبيناً لغاية الحس: {حتى إذا فشلتم} أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة خلاف ما تدعو إليه الهمم العوالي، فكيف بهم إذا كانوا من حزب مولى الموالي! فلو كانت العرب على حال جاهليتها تتفاخر بالإقبال على الطعن والضرب في مواطن الحرب والإعراض عن الغنائم... ولما ذكر الفشل عطف عليه ما هو سببه في الغالب فقال: {وتنازعتم} أي بالاختلاف، وأصله من نزع بعض شيئاً من يد بعض {في الأمر} أي أمر الثغر المأمور بحفظه {وعصيتم} أي وقع العصيان بينكم بتضييع الثغر. وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال: {من بعد ما أراكم ما تحبون} أي من حسهم بالسيوف وهزيمتهم. ولما كان ذلك ربما أفهم أن الجميع عصوا نفي ذلك معللاً للعصيان بقوله: {منكم من يريد الدنيا} أي قد أغضى عن معايبها التي أجلاها فناؤها. ولما كان حكم الباقين غير معين للفهم من هذه الجملة قال: {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الثابتون في مراكزهم، لم يعرجوا على الدنيا. ولما كان التقدير جواباً لإذا: سلطهم عليكم، عطف عليه قوله: {ثم صرفكم عنهم} أي لاندهاشكم إتيانهم إليكم من ورائكم، وعطفه بثم لاستبعادهم للهزيمة بعد ما رأوا من النصرة {ليبتليكم} أي يفعل في ذلك فعل من يريد الاختبار في ثباتكم على الدين في حالي السراء والضراء. ولما كان اختباره تعالى بعصيانهم شديد الإزعاج للقلوب عطف على قوله {صرفكم} {ولقد عفا عنكم} أي تفضلاً عليكم لإيمانكم {والله} الذي له الكمال كله {ذو فضل على المؤمنين} أي كافة، وهو من الإظهار في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وحاصل المعنى انه بعد أن صدقكم وعده فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ويختبر أو لأجل أن يكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به ويميز بين الصادقين والمنافقين ويزيّل بين الأقوياء والضعفاء، كما علم من الآيات السابقة. وقد أسند الله تعالى صرف المؤمنين عن المشركين إلى نفسه هنا باعتبار غايته الحميدة في تربيتهم وتمحيصهم الذي يعدهم للنصر الكامل والظفر الشامل في المستقبل، وأضاف ما أصابهم إليهم في قوله الذي سيأتي في السياق "قل هو من عند أنفسكم "باعتبار سببه وهو ما كان منهم من الفشل والتنازع والعصيان...
قال تعالى: {ولقد عفا عنكم} بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم فصرتم كأنكم لم تفشلوا ولم تتنازعوا ولم تعصوا وقد ظهر أثر هذا العفو في حمراء الأسد كما علم مما مر وما يأتي {والله ذو فضل على المؤمنين} فلا يذرهم على ما هم عليه من ضعف يلم ببعضهم. أو تقصير يهبط بنفوس غير الراسخين منهم، حتى يبتلي ما في قلوبهم، ويمحص ما في صدورهم، فيكونوا من المخلصين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها. فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها. ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار، وتركوا وراءهم الغنائم، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة!.. ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم؛ وتنازعوا فيما بينهم، وخالفوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيهم وقائدهم.. وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها، في حيوية عجيبة: (ولقد صدقكم الله وعده، إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم -من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة. ثم صرفكم عنهم ليبتليكم. ولقد عفا عنكم، والله ذو فضل على المؤمنين. إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، والرسول يدعوكم في أخراكم، فأثابكم غما بغم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم. والله خبير بما تعملون. ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون: هل لنا من الأمر من شيء؟ قل: إن الأمر كله لله. يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك. يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. وليبتلي الله ما في صدوركم. وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور. إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا. ولقد عفا الله عنهم. إن الله غفور حليم).. إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة، ولتداول النصر والهزيمة. مشهدا لا يترك حركة في الميدان، ولا خاطرة في النفوس، ولا سمة في الوجوه، ولا خالجة في الضمائر، إلا ويثبتها.. وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة. وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل، والهروب في دهش وذعر، ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للفارين المرتدين عن المعركة، المصعدين للهرب. يصحب ذلك كله حركة النفوس، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع.. ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن، ومنهج القرآن التربوي العجيب: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه).. وكان ذلك في مطالع المعركة، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين، أي يخمدون حسهم، أو يستأصلون شأفتهم. قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم:"لكم النصر ما صبرتم" فصدقهم الله وعده على لسان نبيه.
(حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).. وهو تقرير لحال الرماة. وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهى الأمر إلى العصيان. بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه. فكانوا فريقين: فريقا يريد غنيمة الدنيا، وفريقا يريد ثواب الآخرة. وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة، ولم يعد الهدف واحدا. وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة. فمعركة العقيدة ليست ككل معركة. إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير. ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير. إنها معركة لله، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له. وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية. ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك- لحكمة يعلمها الله -أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد، فلا يمنحهم الله النصر أبدا، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا..
وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة، وهذا ما أراد الله- سبحانه -أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح! (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)..
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم.. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ص] يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).. وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها! وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم).. لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر. فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان، فلاذوا بالفرار.. وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم.. ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب، ومن تمحيص النفوس، وتمييز الصفوف- كما سيجيئ. وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها. بلا تعارض بين هذا وذاك. فلكل حادث سبب، ووراء كل سبب تدبير.. من اللطيف الخبير.. (ولقد عفا عنكم).. عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد.. عفا عنكم فضلا منه ومنة، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة.. عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله، والاستسلام له، وتسليم قيادكم لمشيئته: (والله ذو فضل على المؤمنين).. ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم، ما داموا سائرين على منهجه، مقرين بعبوديتهم له؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم، ولا موازينهم إلا منه.. فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة.. فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولقد صدقكم} عطف على قوله: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [آل عمران: 151] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين: تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم (التَّاريخ يعيد نفسه) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79]. وصِدق الوعد: تحقيقُه والوفاءُ به، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع...
والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله: {يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] أو بخبر خاصّ في يوم أحُد. وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب. و (إذ) في قوله: {إذ تحسونهم} نصب على الظرفية لقوله: {صدقكم} أي: صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر، و (إذْ) فيه للمضيّ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي...
والفشل: الوهن والإعياء، والتنازع: التخالف، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول، إذ كان الفشل، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه...
ومعنى {من بعد ما أراكم ما تحبون} أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين، فهزموا المشركين، وولوا الأدبار، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين، الغنيمة، التحقوا بالغزاة، فرأى خالد بن الوليد، وهو قائد خيل المشركين يومئذ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا، فذلك قوله تعالى: {من بعد ما أراكم ما تحبون} فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم. والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم. والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من (فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم)، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب (إحدى الحسنيين) ولم يكن ذلك عن جبن، ولا عن ضعف إيمان، أو قصد خذلان المسلمين، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله: {ولقد عفا عنكم}...
والمراد بقوله: {منكم من يريد الدنيا} إرادة نعمة الدنيا وخيرها، وهي الغنيمة، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة، وإنكار لها، كما هو بيّن، ولا حاجة إلى تقدير: منكم من يريد الدنيا، فقط. وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف، إذ كانوا قالوا: إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم، فكانوا متأوَّلين، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول. وإنَّما قال: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه. وعُقب هذا الملام بقوله: {ولقد عفا عنكم} تسكيناً لخواطرهم، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى: {عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43]، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى. وفي تذييله بقوله: {والله ذو فضل على المؤمنين} تأكيد ما اقتضاه قوله: {ولقد عفا عنكم} والظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل، فلا يحتاج إلى التَّوبة، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وكان التعبير بكلمة (صرفكم) بدل (هزمتم) لأن ما حدث في أحد لم يكن هزيمة، وإن لم يكن نصرا؛ لن الهزيمة تقتضي ان يولى المسلمون الأدبار، وأن يتحكم الأعداء، وليس ما حدث أكثر من ان القتلى في المؤمنين كانوا أكثر من القتلى في المشركين، ولم ينل المشركون بذلك مأربا، فكان الله سبحانه وتعالى يشير لهم بأن ما حدث لا يصح ان تبتئسوا له، ولا يصيبكم الحزن؛ لأنه ليس هزيمة، بل هو نوع من الصرف عن الغاية التي من اجلها خرجتم. وكان هذا لا بد منه ليمحص قلوبكم، وليختبركم بالشدائد التي تصقل نفوسكم، وتجعلها مستعدة لما يأتي به القدر، ولبيان ان الطاعة للقائد الحكيم هي أساس الظفر، والعصيان سبب للاندحار.
{ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} في هذا النص السامي... أكد سبحانه وتعالى عفوه بعدة تأكيدات أولها: بالتعبير ب"قد"، فإنها للتحقيق، واستعمالها في أكثر آي القرآن للتحقيق، وثانيها:باللام. وثالثها: بالتعبير بالماضي. ولماذا أكد سبحانه وتعالى عفوه بهذا التأكيد؟ لأن أولئك الأبرار الذين اخلصوا دينهم لله تعالى قد تجسم في نفوسهم خطؤهم، حتى توهموا انه غير قابل للغفران، فإن المؤمن التقى يستكثر هفوته، ويستصغر حسنته؛ لأنه يحس بحق الله تعالى عليه، ووجوب شكر النعم التي انعم بها، وبمقدار قوة الإيمان يغلب المؤمن خوف العقاب على رجاء الثواب. ولقد ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى: {والله ذو فضل على المؤمنين} لبيان فضل الله تعالى العميم على عباده المؤمنين، فكل شيء بفضله، فنصرهم في بدر بفضل منه، ونصرهم في الابتداء في احد كان بفضل منه، وخذلانهم بفشلهم وتنازعتم فيه فضل بتعليمهم حق الجهاد وواجبه، وعفوه عنهم هو الفضل كله، ولقد تأكد فضل الله تعالى في الآية بقوله: {ذو فضل} أي صاحب فضل، والمرمى ان الفضل يلازمه، ولا ينقطع عنه سبحانه وتعالى أبدا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وينتهي هذا الربع بوضع اليد على سبب المتاعب التي لقيها المسلمون يوم أحد، وذلك بغية تنبيه الجيل الإسلامي الأول إلى تجنب عوامل الهزيمة وأسبابها، بالنسبة لما ينتظره من جهاد طويل في سبيل الله، ثم تنبيه كل الأجيال الإسلامية اللاحقة إلى نفس العوامل والأسباب، حتى يتجنبها، ولا تبتلى بها ولا بنتائجها الحتمية، وهذه الأسباب يلخصها كتاب الله في أربعة أشياء: 1-الفشل الذي يصيب بعض ضعفاء النفوس، فيجرون الهزيمة على من معهم {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ}.
- التنازع بين المحاربين وعدم الاتفاق فيما بينهم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}.
- عصيان المحاربين لأوامر القيادة العليا وعدم تنفيذهم لتلك الأوامر تنفيذا حرفيا {وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}.
- اختلاف الوجهة وعدم الاتحاد في الهدف {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ}. فهذه الأسباب الأربعة التي حددها كتاب الله أوضح تحديد هي الأسباب المباشرة في كل هزيمة لحقت المسلمين، في يوم أحد أولا، وفي كل الغزوات والفتوحات التي أخل فيها المسلمون بشروط النصر وأسبابه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قاتل المسلمون في المرحلة الأُولى من معركة «أُحد» بشجاعة خاصّة، ووقفوا وقفة رجل واحد فأحرزوا انتصارا سريعاً، وبددوا جيش العدو في أقرب وقت، فدب السرور والفرح في المعسكر الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه كما أسلفنا، إلاّ أنّ تجاهل فريق من الرماة لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المشددة بالبقاء عند ثغر الجبل والمحافظة عليه سبّب في أن تنقلب الآية.
فقد أقدم ذلك الفريق من الرماة الذين كلّفهم النبي القائد (صلى الله عليه وآله وسلم) بحراسة الثغر الموجود في جبل «عينين» بقيادة «عبد الله بن جبير» على ترك موقعهم المهم جداً عندما عرفوا بهزيمة قريش، واشتغال المسلمين بجمع الغنائم، وفسح هذا الأمر المجال لكمين من قريش في أن يهاجموا المسلمين من الخلف فيتحمل الجيش الإسلامي ضربة نكراء.
وعندما عاد المسلمون بعد تحمل خسائر عظيمة إلى المدينة كان يسأل أحدهم رفيقه: ألم يعدنا الله سبحانه بالفتح والنصر، فلماذا هزمنا في هذه المعركة؟
فكانت الآيات الحاضرة جواباً على هذا السؤال، وتوضيحاً للعلل الحقيقية التي سببت تلك الهزيمة،
وإليك فيما يلي تفسير جزئيات هذه الآيات وتفاصيلها:
قال سبحانه: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم).
ففي هذه العبارة يشير القرآن الكريم بل ويصرح بأن الله قد صدق وعده وأنزل النصر على المسلمين في بداية تلك المعركة، فقتلوا العدو، وفرقوا جمعهم ومزقوا شملهم ما داموا كانوا يتبعون تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتقيدون بأوامره، وما داموا كانوا يتحلون بالثبات والاستقامة، فلم تلحق بهم الهزيمة إلاّ عندما وهنوا وتجاهلوا أوامر القيادة النبوية الدقيقة. وهذا يعنى أن عليهم أن لا يتوهموا بأن الوعد بالتأييد والنصر مطلق لا قيد له ولا شرط، بل كل الوعود الإلهية بالنصر مقيدة باتباع تعاليم الله بحذافيرها، والتمسك بأهدافها.
أما متى وعد الله المسلمين بالنصر في هذه المعركة، فهناك احتمالان:
الأوّل: أن يكون المراد هو تلك الوعود العامة التي يعد الله بها المؤمنين دائماً حيث يخبرهم بأنّه سبحانه ينصرهم على الكافرين والأعداء.
الآخر: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وعد المسلمين بصراحة قبل أن يخوضوا معركة «أُحد» بأنهم منتصرون في تلك المعركة، ووعد النبي هو الوعد الإلهي بلا ريب.
ثمّ إنه سبحانه يقول: بعد بيان هذه الحقيقة حول النصر الإلهي (وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون).
ومن هذه العبارة التي هي إشارة إلى ما طرأ على وضع الرماة في جبل «عينين» يستفاد بوضوح بأن الرماة الذين كلفوا بحراسة الثغر قد اختلفوا فيما بينهم في ترك ذلك الثغر ومغادرة ذلك الموقع في الجبل فعصى فريق كبير منهم، (وهذا قد يستفاد من لفظة عصيتم التي تفيد أن الأغلبية والأكثرية من الرماة قد عصت وتجاهلت تأكيدات النبي بالبقاء هناك).
ولهذا يقول القرآن الكريم بأنّكم عصيتم من بعد ما أراكم النصر الساحق الذي كنتم تحبون، أي أنّكم بذلتم غاية الجهد لتحقيق النصر، ولكنكم وهنتم في حفظه، وتلك حقيقة ثابتة أبداً أن الحفاظ على الانتصارات أصعب بكثير من تحقيقها.
أجل لقد اختلفتم فيما بينكم وتنازعتم في تلك اللحظات الحساسة البالغة الأهمية (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).
ففي الوقت الذي كان البعض -وهم الأغلب كما قلنا- يفكرون في الغنائم وقد سال لعابهم لها حتّى أنهم تركوا موقعهم الخطير في الجبل، بينما بقيت جماعة أخرى قليلة مثل «عبد الله بن جبير» وبعض الرماة ثابتين في مكانهم يذبون عنه الأعداء ويطلبون الآخرة والثواب الإلهي العظيم.
وهنا تغير مجرى الأُمور، وانعكست القضية فبدل الله الانتصار إلى الهزيمة ليمتحنكم وينبهّكم، ويربّيكم: (ولقد صرفكم عنهم ليبتليكم).
ثمّ إنه سبحانه غفر لكم كلّ ما صدر وبدر عنكم من عصيان وتجاهل لأوامر الرسول وما ترتب على ذلك من التبعات في حين كنتم تستحقون العقاب، وما ذلك إلاّ لأن الله لا يضن بنعمة على المؤمنين، ولا يبخل عليهم بموهبة (ولقد عفا عنكم، والله ذو فضل على المؤمنين).
أجل، إنه تعالى يحب المؤمنين، ولا يتركهم وشأنهم ولا يكلهم إلى أنفسهم إلاّ في بعض الأحيان ليتنبهوا، ويتوبوا إلى رشدهم فيزدادوا التصاقاً بالشريعة، واهتماما بالمسؤوليات، ويقظة وإحساساً.