معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

قوله تعالى : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } ، قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً ، وأخصبهم ناحية ، فلما عصوا لله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به ، كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك ، قال فنحاص بن عازوراء : ( يد الله مغلولة ) ، أي : محبوسة ، مقبوضة من الرزق ، نسبوه إلى البخل ، تعالى الله عن ذلك . قيل : إنما قال هذه المقالة فنحاص ، فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها . وقال الحسن : معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا ، فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل ، والأول أولى . لقوله : { ينفق كيف يشاء } .

قوله تعالى : { غلت أيديهم } ، أي : أمسكت أيديهم عن الخيرات .

وقال الزجاج : أجابهم الله تعالى فقال : أنا الجواد وهم البخلاء ، وأيديهم هي المغلولة الممسكة . وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة ، لقوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] .

قوله تعالى : { ولعنوا } ، عذبوا .

قوله تعالى : { بما قالوا } ، فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا ، وفي الآخرة بالنار .

قوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } ، ويد الله صفة من صفات ذاته ، كالسمع ، والبصر ، والوجه . وقال جل ذكره : { لما خلقت بيدي } [ ص :75 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { كلتا يديه يمين } ، والله أعلم بصفاته ، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم ، وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات : أمروها كما جاء بلا كيف .

قوله تعالى : { ينفق } ، يرزق .

قوله تعالى : { كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } ، أي : كلما أنزلت آية كفروا بها وازدادوا طغياناً وكفرا .

قوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } ، يعني : بين اليهود والنصارى ، قاله الحسن ومجاهد : قيل : وبين طوائف اليهود جعلهم مختلفين في دينهم ، متباغضين .

قوله تعالى : { إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } يعني : اليهود ، أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا ، فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا ، فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا ، فبعث الله عليهم المسلمين . وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم ، وقهرهم ، ونصر نبيه ودينه . هذا معنى قول الحسن : وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود ، فلا تلقى اليهود في بلد إلا وجدتهم من أذل الناس .

قوله تعالى : { ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من سوء معتقد اليهود ، وخبث طويتهم ، وسوء أدبهم مع الله - تعالى - فقال :

{ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ . . . }

قال ابن عباس : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق . فأنزل الله هذه الآية .

وقد أضاف - سبحانه - المقالة إلى اليهود جميعا ، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به .

وقال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه . فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قل ما لهم ، فقالوا ما قالوا .

وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } قالوا : إن إله محمد بخيل .

وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } إخبار من الهل عن جراءة اليهود عليه - سبحانه - وسوء أدبهم معه ، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التي لا تحصى .

وأرادوا بقولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } : أنه - سبحانه - بخيل عليهم ، ممسك خيره عنهم ، مانع فضله عن أن يصل إلهم ، حابس عطاءه عن الاتساع لهم ، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف .

وأصل الغل - كما يقول الراغب - تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر . والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال .

وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم ، لأن الله - تعالى - منزه عن مشابهة الحوادث . وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء .

والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال ، لا سيما في دفع المال وإنفاقه . فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد ، مبسوط الكف ، وقيل للبخيل : مقبوض اليد ، كز الكف .

وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : " غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود " ومنه قوله - تعالى - { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط . ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة ، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قد ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها . ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود .

وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقول القائل :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل . . . شكرت نداه تلاعه ووهاده

ويقال : بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفين .

وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف " غل اليد وبسطها مجاز " فقال : والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا ، وهي بسط اليد للجود وقبضها للبخل ، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن ، فلما كان الجود والبخل معنيين لا يدركان بالحس .

عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإِيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات .

وقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا } دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق - سبحانه - فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله ، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - بسبب سوء أدبهم معه - سبحانه - وجحودهم لنعمه .

وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم ، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم ، فقالوا في شأنه ما هو منزه عنه - { وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } قال الآلوسي ما ملخصه : ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدي الحقيقة ، بأن يغلو في الدنيا أسارى - وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم . ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقد فيكون تجنيسا . وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله : سبني سب الله دابره أي قطعه ، لأن السب أصله القطع .

وقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } معطوف على مقدر يقتضيه المقام ، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل .

والمعنى : كلا - أيها اليهود - ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل ، بل هو - سبحانه - الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه .

فبسط اليد هنا كناية عن الجواد والفضل والإِنعام منه - سبحانه - على خلقه .

وعبر بالمثنى فقال : { بَلْ يَدَاهُ } للإِشارة إلى كثرة الفيض والإِنعام ، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء أعطى بكلتا يديه .

قال ابن كثير قوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي : بل هو الواسع الفضل . الذي ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له . كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } والآيات في هذا كثيرة .

وقد روى الإِمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة - أي لا ينقصها الإِنفاق - سحاء - أي مليئة - الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه . وكان عرشه على الماء ، وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال : يقول الله - تعالى - : أنفق أنفق عليك " .

وقوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده ، والدلالة على أنه على مقتضى حكمته ومشيئته فهو - سبحانه - يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقبضه عمن يشاء أن يقبضه عنه ، وقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه لا ينافي سعة كرمه ، لأنه يعطي ويمنع على حسب مشيئته التي أقام بها نظام خلقه .

ثم بين - سبحانه - موقفهم الجحودي مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } .

أي : إن ما أنزلنا عليك يا محمد من قرآن كريم ، وما أطلعناك عليه من خفى أمور هؤلاء اليهود ، ومن أحوال سلفهم كل ذلك ليزيدن الكثيرين منهم كفرا على كفرهم ، وطغيانا على طغيانهم ، وذلك لأنهم قوم أكل الحقد قلوبهم ، واستولى الحسد على نفوسهم .

وإذا كان ما أنزلناه إليك يا محمد فيه الشفاء لنفوس المؤمنين ، فإنه بالنسبة لهؤلاء اليهود يزيديهم بغيا وظلما وكفرا .

قال - تعالى - : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } فالجملة الكريمة بيان لموقف اليهود الجحودي من الآيات التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي في الوقت ذاته تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يلقاه منهم .

وقد أكد - سبحانه - هذه الجملة بالقسم المطوي ، وباللام الموطئة له ، ونون التوكيد الثقيلة لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم ، وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة ، وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع .

وقوله { كثيراً } هو المفعول الأول لقوله { وليزيدن } وفاعله ما الموصولة في قوله { ما أنزل } وقوله { طغيانا } هو المفعول الثاني .

ثم زاد - سبحانه - في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم فأصدر حكمه فيهم بدوام العداوة والبغضاء بين طوائفهم وفرقهم فقال : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } فالضمير في قوله { بينهم } يعود إلى فرق اليهود المختلفة من فريسيين وصدوقيين وقرائين ، وكتبة وغير ذلك من فرقهم المتعددة .

وقيل : الضمير يعود إلى طائفتي اليهود والنصارى .

والأول أرجح لأن الحديث في هذه الآية عن اليهود الذين وصفوا الله - تعالى - بما هو منزه عنه .

والعداوة والبغضاء يرى بعضهم أنهما اسمان لمعنى واحد .

ويرى آخرون أن معناهما مختلف . فالعداوة معناها المناوأة الظاهرة ، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب . فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا . فلا عداوة من غير بغضاء ، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة .

قال أبو حيان : والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو . وقال ابن عطية : وكأن العداوة شيء يشهد ، يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس .

والمعنى : وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة العداوة الدائمة ، والبغضاء المستمرة ، فأنت تراهم كلمتهم مختلفة ، وقلوبهم شتى وكل فرقة منهم تلصق النقائص بالأخرى ، وهم على هذه الحال إلى يوم القيامة .

وما أظهره اليهود في هذا العصر من تعاون وتساند جعلهم ينشئون دولة لهم بفلسطين ، هو أمر مؤقت ، فإن هذه الدولة لن تستمر طويلا ، بل ستعود إلى أهلها المسلمين متى صدقوا في جهادهم واتبعوا تعاليم دينهم .

قال الفخر الرازي : واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه - تعالى - بين أن هؤلاء اليهود إنما ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم بعد ظهورالدلائل على صحتها ، لأجل الحسد . ولأجل حب الجاه والمال . ثم إنه - تعالى - بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أنه - تعالى - كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته . . فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم . وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا . ويحارب بعضهم بعضاً .

فإن قلت : فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيبا على الكتابين حتى يذموا عليه ؟

قلنا : بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين . أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على الكتابين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن .

وقوله : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } أي : كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهيأوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم . كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم ، وأحبط مكرهم ، وألقى الرعب في قلوبهم .

والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حرباً بالإِغارة على غيرهم أوقدوا ناراً يسمونها نار الحرب .

والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر - سبحانه - عن إثارة الحروب بإيقاد نارها . باعتبارها أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعمرة في أخطارها ومصائبها .

وقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التي دمغ الله - تعالى - بها اليهود .

أي : أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للاسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثاً للافساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن ، وإيقاظ الأحقاد بين الناس . والله - تعالى - لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم ، لإِيثارهم الضلالة على الهدى ، والشر على الخير .

وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود في نسبتهم البخل إلى الله - تعالى - وبينت أنه - سبحانه - هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه - سبحانه - يبغضهم لأنهم يفسدون في الأرض ولايصلحون .

ولقد بسطنا القول في مظاهر فسادهم في الأرض في غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

51

وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم :

وقالت اليهود يد الله مغلولة - غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء-

وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه . فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك . وقد قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة ! وقالوا : يد الله مغلولة ، يعللون بذلك بخلهم ؛ فالله - بزعمهم - لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل . . فكيف ينفقون ؟ !

وقد بلغ من غلظ حسهم ، وجلافة قلوبهم ، ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ؛ فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا : يد الله مغلولة !

ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم : ( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) .

وكذلك كانوا ، فهم أبخل خلق الله بمال !

ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ؛ ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم . وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب :

( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) . .

وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان . . شاهدة باليد المبسوطة ، والفضل الغامر ، والعطاء الجزيل ، ناطقة بكل لسان . ولكن يهود لا تراها ؛ لأنها مشغولة عنها باللم والضم ، وبالكنود وبالجحود ، وبالبذاءة حتى في حق الله !

ويحدث الله رسوله [ ص ] عما سيبدو من القوم ، وعما سيحل بهم ، بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ؛ وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث :

( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا ) . .

فبسبب من الحقد والحسد ، وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله ، سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا . لأنهم وقد أبوا الإيمان ، لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ؛ ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا ، وطغيانا وكفرا . فيكون الرسول [ ص ] رحمة للمؤمنين ، ووبالا عن المنكرين .

ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ؛ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ؛ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة :

وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله . .

وما تزال طوائف اليهود متعادية . وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ؛ وتوقد نار الحرب علىالبلاد الإسلامية وتفلح ! ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة . ففي خلال ألف وثلاثمائة عام . . بل من قبل الإسلام . . واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد . ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه . مهما تقم حولهم الأسناد . ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة ، التي يتحقق لها وعد الله . . فأين هي العصبة المؤمنة اليوم ، التي تتلقى وعد الله ، وتقف ستارا لقدر الله ، ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ؟

ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام : تؤمن به على حقيقته ؛ وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته . . يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله . . واليهود يعرفون هذا ، ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ؛ ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك ، على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض ، ويضربون - لا بأيديهم - ولكن بأيدي عملائهم - ضربات وحشية منكرة ؛ لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة . . ولكن الله غالب على أمره . ووعد الله لا بد أن يتحقق :

( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) . .

إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود ، لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ؛ فالله لا يحب الفساد في الأرض ؛ وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه :

( ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ } . .

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جراءة اليهود على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته ، توبيخا لهم بذلك وتعريفا منه نبيه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به وإنكارهم جميع جميل أياديه له نبيّ مبعوث ورسول مرسل أن كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود فضلاً عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرءوا كتابا ولا وَعَوْا من علوم أهل الكتاب علما فأطلع الله على ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وسلم ليقرّر عندهم صدقه ويقطع بذلك حجتهم . يقول تعالى ذكره : وَقالَتِ اليَهُودُ من بين إسرائيل يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعنون : أن خير الله ممسك ، وعطاءه محبوس عن الاتساع عليهم ، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ . وإنما وصف تعالى ذكره اليد بذلك ، والمعنى : العطاء ، لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم ، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم أو ببخل وشحّ وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل :

يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفّ مُفِيدَةٌ ***وكَفّ إذا ماضُنّ بالزّادِ تُنْفِقُ

فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى اليد ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى . فخاطبهم الله بما يتعارفونه ، ويتحاورونه بينهم في كلامهم ، فقال : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعني بذلك أنهم قالوا : إن الله يبخل علينا ويمنعنا فضله فلا يفضل ، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف . تعالى الله عما قال أعداء الله فقال الله مكذّبهم ومخبرهم بسخطه عليهم : غُلّتْ أيْدِيهِمْ يقول : أُمْسكت أيديهم عن الخيرات ، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات ، ولُعِنوا بما قالوا ، وأُبْعِدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب ، والإفك . بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه ، غير مغلولتين ولا مقبوضتين . يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ يقول : يعطى هذا ويمنع هذا فيقتر عليه .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قالُوا . قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده . تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قال : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل الله يده إلى نحره . وكذبوا

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قال : اليهود تقول : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب حتى إن يده إلى نحره . بل يداه مبسوطتان ، ينفق كيف يشاء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قالُوا . . . إلى : واللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ . أما قوله يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قالوا : الله بخيل غير جواد ، قال الله : بلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ قالوا : إن الله وضع يده على صدره فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا .

وأما قوله : يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يقول : يرزق كيف يشاء .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ . . . الاَية ، نزلت في فنحاص اليهوديّ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يقولون : إنه بخيل ليس بجواد قال الله : غُلّت أيْدِيهِمْ : أمسكت أيديهم عن النفقة والخير . ثم قال يعني نفسه : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وقال : لا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ يقول : لا تمسك يدك عن النفقة .

واختلف أهل الجدل في تأويل قوله : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ فقال بعضهم : عُني بذلك نعمتاه ، وقال : ذلك بمعنى : يد الله على خلقه ، وذلك نعمه عليهم وقال : إن العرب تقول : لك عندي يد ، يعنون بذلك : نعمة .

وقال آخرون منهم : عنى بذلك القوّة ، وقالوا : ذلك نظير قول الله تعالى ذكره : وَاذْكُرْ عِبادَنا إبْرَاهِيمَ وإسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولى الأيْدِي .

وقال آخرون منهم : بل يده ملكه وقال : معنى قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ : ملكه وخزائنه . قالوا : وذلك كقول العرب للمملوك : هو ملك يمينه ، وفلان بيده عقدة نكاح فلانة : أي يملك ذلك ، وكقول الله تعالى ذكره : فَقَدّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً .

وقال آخرون منهم : بل يد الله صفة من صفاته هي يد ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم . قالوا : وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصية آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده . قالوا : ولو كان لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم ، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ومشيئته في خلقه تعمه وهو لجميعهم مالك . قالوا : وإذا كان تعالى ذكره قد خصّ آدم بذكره خلقه إياه بيده دون غيره من عباده ، كان معلوما إنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق . قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، بطل قول من قال : معنى اليد من الله القوّة والنعمة أو الملك في هذا الموضع . قالوا : وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون إن يد الله في قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ هي نعمته ، لقيل : بل يده مبسوطة ، ولم يقل : بل يداه ، لأن نعمة الله لا تحصى بكثرة وبذلك جاء التنزيل ، يقول الله تعالى : وَإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها قالوا : ولو كانت نعمتين كانتا محصاتين .

قالوا : فإن ظنّ ظانّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة ، فذلك منه خطأ وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه ، وذلك كقول الله تعالى ذكره : وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، وكقوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ ، وقوله : وكانَ الكافِرُ على رَبّهِ ظَهِيرا . قال : فلم يُرَدْ بالإنسان والكافر في هذه الأماكن إنسان بعينه ، ولا كافر مشار إليه حاضر ، بل عُني به جميع الإنس وجميع الكفار ، ولكن الواحد أدّى عن جنسه كما تقول العرب : ما أكثر الدرهم في أيدي الناس ، وكذلك قوله : وكانَ الكافِرُ معناه : وكان الذين كفروا . قالوا : فأما إذا ثني الاسم ، فلا يؤدّي عن الجنس ، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما . قالوا : وخطأ في كلام العرب أن يقال : ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى : ما أكثر الدراهم في أيديهم . قالوا : وذلك أن الدرهم إذا ثني لا يؤدّي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما . قالوا : وغير محال : ما أكثر الدرهم في أيدي الناس وما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الواحد يؤدّي عن الجميع . قالوا : ففي قول الله تعالى : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى ، ومع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع ، ما ينبىء عن خطأ قول من قال : معنى اليد في هذا الموضع : النعمة ، وصحة قول من قال : إنّ يَدَ اللّهِ هي له صفة . قالوا : وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به العلماء وأهل التأويل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيزِيدَنّ كَثِيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيّ أمور هؤلاء اليهود مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم ، احتجاحا عليهم لصحة نبوّتك ، وقطعا لعذر قائل منهم أن يقول : ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ليزيدنّ كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، يعني بالطغيان : الغلوّ في إنكار ما قد علموا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك . وكُفْرا يقول : ويزيدهم مع غلوهم في إنكار ذلك جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته ، بأن ينسبوه إلى البخل ، ويقولوا : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ . وإنما أعلم تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرّد على ربهم ، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته ، ولكنهم يعاندونه يسلي بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله وتكذيبهم إياه . وقد بينت معنى الطغيان فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَيزِيدَنّ كَثِيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم .

القول في تأويل قوله تعالى : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَومْ القِيامَةِ .

يعني تعالى ذكره بقوله : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَومْ القِيامَةِ بين اليهود والنصارى . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَومْ القِيامَةِ اليهود والنصارى .

فإن قال قائل : وكيف قيل : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ جعلت الهاء والميم في قوله بَيْنَهُمْ كناية عن اليهود والنصارى ، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر ؟ قيل : قد جرى لهم ذكر ، وذلك قوله : لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ جرى الخبر في بعض الاَي عن الفريقين وفي بعض عن أحدهما ، إلى أن انتهى إلى قوله : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ ، ثم قصد بقوله : ألْقَيْنا بَيْنَهُمُ الخبر عن القريقين .

القول في تأويل قوله تعالى : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ .

يقول تعالى ذكره : كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى فأرادوا مناهضة من ناوأهم ، شتته الله عليهم وأفسده ، لسوء فعالهم وخبث نياتهم . كالذي :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وَكانَ وَعْدا مَفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَيْهِمْ . قال : كان الفساد الأوّل ، فبعث الله عليهم عدوّا ، فاستباحوا الديار واستنكحوا النساء واستعبدوا الولدان وخرّبوا المسجد . فَغَبروا زمانا ، ثم بعث الله فيهم نبيّا ، وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان . ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء ، حتى قتلوا يحيى بن زكريا ، فبعث الله عليهم بختنصر ، قتل من قتل منهم وسَبى من سَبى وخرّب المسجد ، فكان بختنصر للفساد الثاني . قال : والفساد : المعصية . ثم قال : فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجدَ كما دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ . . . إلى قوله : وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا فبعث الله لهم عُزَيزا ، وقد كان علّم التوراة وحفظها في صدره ، وكتبها لهم . فقام بها ذلك القرن ، ولبثوا ونسوا . ومات عُزَيرٌ ، وكانت أحداث ، ونسوا العهد ، وبخّلوا ربهم ، وقالوا : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بمَا قالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وقالوا في عُزَيرٍ : إن الله اتخذه ولدا . وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح ، فخالفوا ما نَهَوْا عنه وعملوا بما كانوا يُكَفّرون عليه . فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لم يظهروا على عدوّ آخر الدهر ، فقال : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ ، فبعث الله عليهم المجوس الثلاثة أربابا ، فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم وهم يقولون : يا ليتنا أدركنا هذا النبيّ الذي نجده مكتوبا عندنا ، عسى الله أن يفكنا به من المجوس والعذاب الهون فبعث محمدا صلى الله عليه وسلم ، واسمه محمد ، واسمه في الإنجيل أحمد فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ ، قال : فَلَعْنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ وقال : فَباءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ هم اليهود .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا أولئك أعداء الله اليهود ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله ، لقد جاء الإسلام حين جاء وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ قال : كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرّقه الله ، وأطفأ حَدّهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب .

وقال مجاهد بما :

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ قال : حرب محمد صلى الله عليه وسلم .

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ .

يقول تعالى ذكره : ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله ، فيكفرون بإياته ويكذّبون رسله ويخالفون أمره ونهيه ، وذلك سعيهم فيها بالفساد . وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ يقول : والله لا يحبّ من كان عاملاً بمعاصيه في أرضه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

وقوله تعالى : { وقالت اليهود } إلى قوله { لا يحب المفسدين } هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك ، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل ، وذلك أنهم لحقتهم َسَنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة ، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك }{[4606]} فإنما المراد لا تبخل ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : مثل البخيل والمتصدق ، الحديث{[4607]} وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها ، وقال الحسن بن أبي الحسن قوله : { يد الله مغلولة } إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا .

قال القاضي أبو محمد : فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم ، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم ، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم ، وقوله تعالى : { غلت أيديهم } دعاء عليهم ، ويحتمل أن يكون خبراً ، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة ، وإذا كان خبراً عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه ، وإذا كان خبراً عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه ، وقرأ أبو السمال «ولعْنوا » بسكون العين ، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة ، وقوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } العقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون .

ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى : { بل يداه } وفي قوله : { بيدي }{[4608]} و { عملت أيدينا }{[4609]} و { يد الله فوق أيديهم }{[4610]} و { لتصنع على عيني }{[4611]} و { تجري بأعيننا }{[4612]} و { اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا }{[4613]} { وكل شيء هالك إلا وجهه }{[4614]} ونحو هذا ، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها{[4615]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكون عن الأمر هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة .

وقال جمهور الأمة : بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب . فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك ، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع ، إذا كان يعني بأموره وإن كان غائباً عنه ، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها ، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا ، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد ، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه ، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالاً لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز ، وهذا مذهب أبي المعالي والحذاق ، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب : هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد ، وذكر هذا الطبري وغيره ، وقال ابن عباس في هذه الآية ، { يداه } نعمتاه ، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة ، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن قوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } عبارة عن إنعامه على الجملة وعبر عنه بيدين جرياً على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى :

يداك يدا مجد فكفٌّ مفيدة *** وكفٌّ إذا ما ضنَّ بالمال تنفق{[4616]}

ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق ، قال أبو عمرو الداني : وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان » يقال يد بسطة أي مطلقة ، وروي عنه «بسطان » ، وقوله تعالى : { وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } إعلام لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك ، طغوا وكفروا ، وكان عليهم أن يؤمنوا{[4617]} إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله ، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغياناً ، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان .

وقوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } معطوف على قوله { وقالت اليهود } فهي قصص يعطف بعضها على بعض ، و { العداوة } أخص من { البغضاء } لأن كل عدو فهو يبغض ، وقد يبغض من ليس بعدو ، وكأن العدواة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس ، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل ، وقوله تعالى : { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم ، والآية تحتمل أن تكون إخباراً عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور ، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعاً إلا في قرى محصنة ، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما . وقال مجاهد : معنى الآية كلما أوقدوا ناراً لحرب محمد أطفأها الله ، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود ، وقوله تعالى : { ويسعون } معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل ، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم ، وذلك كقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله }{[4618]} وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ : إن السعي في قوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } إنه العمل والفعل ، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى » ، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله » وقوله تعالى : { والله لا يحب المفسدين } أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة .


[4606]:- من الآية (29) من سورة (الإسراء).
[4607]:- رواه البخاري ومسلم وغيرهما، ولفظة: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت على جلده حتى تخفي بنانه وتطفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع)، والحديث مروي عن أبي هريرة، ورمز له في "الجامع الصغير" بأنه صحيح.
[4608]:- من قوله تعالى في الآية (75) من سورة (ص): {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}.
[4609]:- من قوله تعالى في الآية (71) من سورة (يسن): {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون}.
[4610]:- من قوله تعالى في الآية (10) من سورة (الفتح): {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}.
[4611]:- من قوله تعالى في الآية (39) من سورة (طه): {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني}.
[4612]:- من قوله تعالى في الآية (14) من سورة (القمر): {تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر}.
[4613]:- من قوله تعالى في الآية (48) من سورة (الطور): {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم}.
[4614]:- من قوله تعالى في الآية (88) من سورة (القصص):{كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}.
[4615]:- يقال: أعننت بعنّة: إذا تعرضت لشيء لا أعرفه، والرجل المُعن هو الذي يدخل فيما لا يعنيه. والتشقيق مبالغة في الشق، وشقّق الكلام: وسّعه وبيّنه وولّد بعضه من بعض، وفي حديث البيعة: (تشقيق الكلام عليكم شديد).
[4616]:- هذا البيت من قصيدته التي يمدح بها المحلق بن خنثم بن شداد بن ربيعة، ومطلعها: أرقت وما هذا السهاد المؤرق وما بي من سقم وما بي معشق ونص البيت في الديوان هكذا: يداك يدا صدق فكف مفيدة وأخرى إذا ما ضنّ بالزّاد تنفق
[4617]:- يريد: وكان المفروض أن يؤمنوا، يقال: ما َنْولك أن تفعل كذا، أي: لا ينبغي لك، وفي الحديث: (ما نول امرئ مسلم أن يقول غير الصواب).
[4618]:- من الآية (9) من سورة (الجمعة).