ولما لم تزل الدلائل على{[26758]} إبطال دعوى أهل الكتاب في البنوة والمحبة تقوم{[26759]} ، وجبوش البراهين تنجد{[26760]} ، حتى انتشبت{[26761]} فيهم سهام الكلام أي انتشاب ، قال تعالى معجباً من عامتهم بعد تعيين خاصتهم ، معلماً بأنهم لم يقنعوا بالسكوت عن المنكر حتى تكلموا بأنكره ، مشيراً إلى سفول رتبتهم ودناءة منزلتهم{[26762]} بأداة التأنيث : { وقالت اليهود } معبرين عن{[26763]} البخل والعجز جرأة وجهلاً بأن قالوا ذاكرين اليد لأنها موضع القدرة وإفاضة الجود والنصرة : { يد الله } أي الذي يعلم كل عاقل أن له صفات الكمال { مغلولة } أي فهو لا يبسط الرزق غاية البسط{[26764]} ، وهذا كناية عن البخل والعجز من غير نظر إلى مدلول كل من ألفاظه{[26765]} على حياله{[26766]} أصلاً ، كما قال تعالى :
{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط{[26767]} }[ الإسراء : 29 ] ولم يقصد من ذلك غير الجود وضده ، لا غل ولا عنق ولا بسط أصلاً ، بل صار هذا الكلام عبارة عما وقع مجازاً عنه ، كأنهما متعقبان{[26768]} على معنى واحد ، حتى لو جاد{[26769]} الأقطع إلى المنكب لقيل{[26770]} له{[26771]} ذلك ، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة ، منه الاستواء " وقالت : في السماء{[26772]} " المراد منه - كما قاله{[26773]} العلماء - أنه ليس مما يعبده المشركون من الأوثان ، قال في الكشاف : ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة{[26774]} الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، و{[26775]} لم يتخلص عن يد الطاعن إذا عبثت به .
ولما نطقوا بهذه الكلمة{[26776]} الشنعاء ، وفاهوا بتلك الداهية الدهياء ، أخبر عما جازاهم به سبحانه على صورة ما كان العرب يقابلون به من يستحق الهلاك من الدعاء ، فقال معبراً بالمبني للمفعول إفادة لتحتم الوقوع وتعليماً لنا كيف ندعو عليهم ، ولم يسببه عما قبله بالفاء تقوية{[26777]} له على تقدير سؤال سائل : { غلت أيديهم } دعاء مقبولاً وخبراً صادقاً ، عن كل خير ، فلا تكاد{[26778]} تجد فيهم كريماً ولا شجاعاً ولا حاذقاً في فن ، وإن كان ذلك لم تظهر{[26779]} له ثمرة { ولعنوا } أي أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم { بما قالوا } والمعنى أنهم كما رأوا أحوال المنافقين المقضي في التوراة بأنها إثم وأقروا عليها ، فكذلك نطق بعضهم بكلمة الكفر التي لا أفظع منها ، وسكت عليه الباقون فشاركوه ، ولما كان الغل كناية عن البخل وعدم الإنفاق ، وكان الدعاء{[26780]} بغلهم ولعنهم{[26781]} متضمناً{[26782]} أن الأمر ليس كما قالوا ، ترجمة سبحانه بقوله{[26783]} : { بل يداه }{[26784]} وهو منزه عن الجارحة وعن كل ما يدخل تحت الوهم{[26785]} { مبسوطتان } مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود ، ليكون رد قولهم وإنكاره{[26786]} بأبلغ ما يكون في قطع تعنتهم وتكذيب قولهم .
ولما كان معنى هذا إثبات ما نفوه على أبلغ الأحوال ، قال مصرحاً بالمقصود معرفاً أنه في إنفاقه مختار فلا غرو أن يبسط لبعض دون بعض : { ينفق } ولما كان إنفاقه سبحانه تحقيقاً للاختيار على أحوال متباينة بحيث إنها تفوت الحصر ، أشار إلى التعجيب{[26787]} من ذلك بالتعبير بأداة الاستفهام وإن قالوا : إنها في هذا الموطن شرط ، فقال : { كيف } أي كما { يشاء } أي على أي حالة أراد دائماً من تقتير وبسط وغير ذلك .
ولما كان قولهم هذا غاية في العجب لأن كتابهم كافٍ في تقبيحه بل تقبيح ما هو دونه في الفحش ، فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان ، قال سبحانه عاطفاً على
{ وترى كثيراً منهم }[ المائدة : 62 ] مؤكداً لمضمون ما سبق من قوله
{ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له{[26788]} من الله شيئاً }[ المائدة : 41 ] بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز على لسان هذا النبي الذي{[26789]} هم{[26790]} به أعرف منهم بأبنائهم : { وليزيدن كثيراً منهم } أي{[26791]} ممن أراد الله فتنته ، ثم ذكر فاعل الزيادة فقال{[26792]} : { ما أنزل إليك } أي على ما له من النور وما يدعو إليه من الخير { من ربك } أي المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى { طغياناً } أي تجاوزاً عظيماً عن{[26793]} الحد تمتلىء منه الأكوان في كل إثم وشنأ{[26794]} ، و{[26795]} ذلك بما جره إليهم داء الحسد ، لأنهم كلما رأوه سبحانه قد{[26796]} زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان ، وهو - لما له من الكمال وعلو الشأن - يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه والبرهان ، فيكون أعدى العدوان { وكفراً } أي ستراً لما ظهر لعقولهم من النور ، ودعت إليه كتبهم من الخير ، وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح ، وكلما قوي{[26797]} الضياء زاد أذاه ، وفي هذا إياس من توبتهم وتأكيد{[26798]} لعداوتهم وزجر عن موالاتهم ومودتهم ، أي إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقاً ما وجدوا قوة ، فإن ضعفوا فنفاقاً .
ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفاً من كيدهم ، نفى ذلك بقوله { وألقينا } أي بما لنا من العظمة الباهرة { بينهم } أي اليهود { العداوة } ولما كانت العداوة{[26799]} - وهي أي يعدون بعضهم إلى أذى بعض - ربما زالت بزوال السبب ، أفاد أنها لازمة لا تنفك بقوله : { والبغضاء } أي لأمور{[26800]} باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو { إلى يوم القيامة } .
ولما كان ذلك مفيداً لوهنهم ترجمه بقوله : { كلما أوقدوا } على سبيل التكرار لأحد من الناس { ناراً للحرب } أي باحكام أسبابها وتفتيح جميع أبوابها { اطفأها } أي خيّب قصدهم في ذلك { الله } أي الذي له جميع صفات الكمال ، فلا تجدهم في بلد من البلاد إلا في الذل وتحت القهر ، وأصل{[26801]} استعارة النار لها ما في كل منهما من التسلط والغلبة والحرارة في الظاهر والباطن ، مع أن المحارب يوقد{[26802]} النار في موضع عال ليجتمع إليه{[26803]} أنصاره ، ولقد قام لعمري دليل المشاهدة على صدق ذلك بغزوة قينقاع تم النضير ثم قريضة ، والقبائل الثلاث بالمدينة لم يتناصروا{[26804]} ولم ينصروا{[26805]} ، ثم غزوة{[26806]} خيبر وأهل فدك و{[26807]} وادي القرى وهم متقاربون ولم يتناصروا ولم ينصروا{[26808]} ، هذا فيما في خاصتهم ، وأما في غير ذلك فقد ألبّوا الأحزاب وجمعوا القبائل وأتقنوا{[26809]} في أمرهم على زعمهم المكايد ، ثم أطفأ الله نارهم حساً ومعنى بالريح والملائكة ، وألزمهم{[26810]} خزيهم وعارهم وجعل الدائرة عليهم - وساق جيش المنون على أيدي المؤمنين إليهم ، وإلى ذلك وأمثاله من أذاهم الإشارة بقوله : { ويسعون } أي يوجدون مجتهدين اجتهاد الساعي على سبيل الاستمرار بما يوجدون من المعاصي من كتمان ما عندهم من الدليل على صحة الإسلام وغير ذلك من أنواع الأجرام { في الأرض } أي كل{[26811]} ما قدروا عليه بالفعل والباقي بالقوة{[26812]} .
ولما كان الإنسان لكونه{[26813]} محل نقصان لا ينبغي أن يتحرك فضلاً عن أن يمشي فضلاً عن أن يسعى إلا بما يرضي الله ، وحينئذ لا ينسب الفعل إلا إلى الله لكونه آمراً به خالقاً له ، فكانت نسبة السعي إلى الإنسان دالة{[26814]} على الفساد ، صرح به في قوله : { فساداً } أي للفساد أو ذوي فساد { والله } أي والحال أن الذي له الكمال كله { لا يحب المفسدين * } أي لا يفعل معهم فعل المحب ، فلا ينصر لهم جيشاً ، ولا يعلي لهم كعباً{[26815]} ، ولا يصلح لهم شأناً ، وبذلك توعدهم سبحانه في التوراة أنهم إذا خالفوا أمره سلط عليهم من عذابه بواسطة عباده وبغير واسطتهم ما يفوت الحصر - كما مضى ذلك قريباً{[26816]} عما بين أيديهم من التوراة بنصه .