بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

قوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } وذلك أن الله تعالى قد بسط عليهم الرزق ، فلما عصوه وجحدوا نعمته ، قتر عليهم الرزق ، فقالوا عند ذلك : { يد الله مغلولة } أي : محبوسة عن البسط ، فأمسك عنا الرزق .

قال الله تعالى : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } يعني : أمسكت أيديهم عن الخير ، ويقال : هذا وعيد لهم ، غلت أيديهم في نار جهنم . ويقال : جُعِلوا بخلاء ، فلا يعطون الناس شيئاً مما أعطاهم الله تعالى .

ثم قال : { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } يعني : عُذِّبوا وطُرِدوا من رحمة الله ، لقولهم ذلك . ثم قال : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } يعني : رزقه واسع باسط على خلقه { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } يقول : يرزق لمن يشاء مقدار ما يشاء ، فله خزائن السموات والأرض . وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « قَالَ الله تَعَالى : لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ ، وَآخِرَكُمْ ، وَجِنَّكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ ، سَأَلَ كُلُّ رَجُلٍ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ ، لَمْ يَنْقُصْ ذلك مِنْ خَزَائِنِ مُلْكِي مِقْدَارَ مَا يُغْتَرَفُ مِنَ البَحْرِ بِرَأسِ إبْرَةٍ وَاحِدَةٍ »

ثم قال تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم } يعني : من اليهود ، { مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن ، { مِن رَّبّكَ طغيانا } يعني : تمادياً بالمعصية ، { وَكُفْراً } وجحوداً بالقرآن يعني : كل ما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به ، فيزيد جحودهم في طغيانهم ، وإنما نسب ذلك إلى ما أنزله ، لأن ذلك سبب لطغيانهم وجحودهم . وهذا كما قال في آية أخرى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] يعني : أن ذلك سبب لخسرانهم .

ثم قال تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة } يعني : جعلهم الله مختلفين في دينهم ، متباغضين كما قال في آية أخرى : { لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً إِلاَّ في قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وراء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [ الحشر : 14 ] .

ثم قال : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } يقول : كلما أجمعوا أمرهم على المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرقه الله تعالى ، وأطفأ نار مكرهم ، أي : يسكته الله تعالى ، ووهن أمرهم ، وهذا على وجه الكناية كما قال : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ثم قال : { وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً } يعني : يعملون فيها بالمعاصي ، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله تعالى ، { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } يعني : لا يرضى بعمل الذين يعملون بالمعاصي ، والله لا يحب أهل الفساد ، ولا عملهم .