لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

قوله عز وجل : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي . قال ابن عباس : إن الله قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله ومحمداً صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة .

فعند ذلك قال فنحاص : يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء . فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض تعالى الله عن قولهم علوَّاً كبيراً ، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله ، لا جرم لأن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخباراً عنهم : وقالت اليهود يد الله مغلولة . يعني نعمته مقبوضة عنا . وقيل : معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه وذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل .

والقول الأول أصح ، لقوله تعالى : ينفق كيف يشاء . واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } والسبب أن اليد آلة لكل الأعمال لاسيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازاً فقيل للجواد الكريم فياض اليد ومبسوط اليد وقيل للبخيل مقبوض اليد .

وقوله تعالى : { غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا } يعني : أمسكت أيديهم عن كل خير وطردوا عن رحمة الله . قال الزجاج : رد الله عليهم فقال : أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة . وقيل : هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم ؟ فقال : غلت أيديهم أي في نار جهنم . فعلى هذا هو من الغل حقيقة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى لعنوا بما قالوا عذبوا بسبب ما قالوا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية وفي الآخرة لهم عذاب النار .

وقوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } يعني أنه تعالى جواد كريم ينفق كيف يشاء وهذا جواب لليهود ورد عليهم ما افتروه واختلقوه على الله تعالى عن قولهم علواً كبيراً وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم .

وأما الكلام في اليد فقد اختلف العلماء في معناها على قولين : أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين أن يد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل قال الله تعالى { لما خلقت بيدي } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين " .

والقول الثاني : قول جمهور المتكلمين وأهل التأويل ، فإنهم قالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه ، أحدها : الجارحة وهي معلومة . وثانيهما : النعمة . يقال : لفلان عندي يد أشكره عليها . وثالثها : القدرة قال الله تعالى : { أولي الأيدي والأبصار } فسروه بذوي القوى والعقول لا يدلك بهذا الأمر والمعنى سلب كمال القدرة . ورابعها : الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه ومنه قوله تعالى{ الذي بيده عقدة النكاح } أي يملك ذلك ، أما الجارحة فمنتفية في صفة الله عز وجل لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض تعالى الله عن الجسمية والكيفية والتشبيه علواً كبيراً فامتنع بذلك أن تكون يد الله بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني ، التي فسرت اليد بها فحاصلة ، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق الله عبارة عن القدرة وعن الملك وعن النعمة وها هنا إشكالان :

أحدهما : أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرة الله واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين في قوله تعالى بل يداه مبسوطتان وأجيب عن هذا الإشكال بأن اليهود لما جعلوا قولهم { يد الله مغلولة } كناية عن البخل أجيبوا على وفق كلامهم فقال : بل يداه مبسوطتان . أي ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل بل هو جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه .

الإشكال الثاني : أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد ونعم الله غير محصورة ولا معدودة ومنه قوله تعالى :{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وأجيب عن هذا الإشكال بأن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها مثل : نعمة الدنيا ونعمة الدين ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ونعمة النفع ونعمة الدفع . فالمراد بالتثنية ، المبالغة في وصف النعمة . أجاب أصحاب القول عن هذا بأن قالوا : إن الله تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه ولو كان معنى خلقه لآدم بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته وجميعهم في ملكه ومتقلبون في نعمه فلما خص الله آدم عليه السلام بقوله تعالى لما خلقت بيدي دون خلقه علم بذلك اختصاصه وتشريفه على غيره . ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولاً : أن اليد صفة قائمة بذات الله وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم واصطفائه له فلو كانت اليد عبارة عن القدرة امتنع كون آدم مصطفي بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء هذا آخر كلامه . وأجيب عن قولهم : إن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة بأن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس أيضاً قالوا وخطأ في كلام العرب أن يقال ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما ولكن الواحد يؤدي عن جنسه ، كما تقول العرب : ما أكثر الدرهم في أيدي الناس . بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم ، لأن الواحد يؤدي عن الجمع فثبت بهذا البيان قول من قال : إن اليد صفة لله تعالى تليق بجلاله وإنها ليست بجارحة ، كما تقول : المجسمة تعالى الله عن قولهم علّواً كبيراً { ينفق كيف يشاء } يعني أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار فيوسع على من يشاء ويقتّر على من يشاء لا اعتراض عليه في ملكه ولا فيما يفعله ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تبارك وتعالى لما أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفص وهذا الحديث أيضاً أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف .

وقوله تعالى : { وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } يعني كلما نزلت عليك آية من القرآن كفروا بها فازدادوا شدة في كفرهم وطغياناً مع طغيانهم والمراد بالكثير علماء اليهود وقيل إقامتهم على كفرهم زيادة منهم فيه { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } يعني : ألقينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى . وقيل : ألقى ذلك بين طوائف اليهود ، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة ، فإن بعض اليهود جبرية ، وبعضهم قدرية ، وبعضهم مشبهة وكذلك النصارى فرق كالملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، والمارونية .

فإن قلت ، فهذا المعنى أيضاً حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيباً على اليهود والنصارى حتى يذموا به . قلت : هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين .

أما في الصدر الأول ، فلم يكن شيء من ذلك حاصلاً بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } يعني كلما أفسد اليهود وخالفوا حكم الله يبعث الله عليهم من يهلكهم . أفسدوا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس وهم الفرس ثم أفسدوا . وقالوا : يد الله مغلولة فبعث الله المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبداً وقال مجاهد : معنى الآية كلما مكروا في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأه الله تعالى وقال السدي : كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمد صلى الله عليه وسلم فرَّقه الله تعالى وكلما أوقدوا ناراً في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وأخمد نارهم وقذف في قلوبهم الرعب وقهرهم ونصر نبيه ودينه { ويسعون في الأرض فساداً } يعني ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم . وقيل : إنهم يسعون بالمكر والكيد والحيل وليس يقدرون على غير ذلك { والله لا يحب المفسدين } يعني أن الله لا يحب من كانت هذه صفته . قال قتادة : لا نلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق الله إليه .