الإطفاء : الإخماد حتى لا يبقى أثر .
{ وقالت اليهود يد الله مغلولة } نزلت في فنخاص قاله : ابن عباس .
وقال مقاتل : فيه وفي ابن صوريا ، وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك .
ونسب ذلك إلى اليهود ، لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك .
واليد في الجارحة حقيقة ، وفي غيرها مجاز ، فيراد بها النعمة تقول العرب : كم يدلي عند فلان ، والقوة والملك والقدرة .
قل : إن الفضل بيد الله ، قال الشاعر :
وأنت على أعباء ملكك ذو يد *** أي ذو قدرة ، والتأييد والنصر يد الله مع القاضي حين يقضي ، والقاسم حين يقسم .
وتأتي صلة { مما عملت أيدينا أنعاماً } أي مما عملنا { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } أي الذي له عقدة النكاح .
وظاهر قول اليهود إن لله يداً فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم ، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية ، قاعد على كرسي .
وزعموا أنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة ، واستلقى على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة .
وردّ الله تعالى ذلك بقوله : { ولم يعي بخلقهنّ } { وما مسنا من لغوب } وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغلّ اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ، ومنه { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه ، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها .
تعود بسط الكف حتى لو أنه *** ثناها لقبض لم تجبه أنامله
كنى بذلك عن المبالغة في الكرم .
وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال ابن عباس : هو أن الله كان يبسط لهم الرزق ، فلما عصوا أمر الرسول وكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك .
وقال قتادة : لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل .
وقيل : لما استعان بهم في الديات .
وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية .
وقال قتادة أيضاً : لما أعان النصارى بخت نصر المجوسي على تخريب بيت المقدس قالت اليهود : لو كان صحيحاً لمنعنا منه ، فيده مغلولة .
وقال الحسن : مغلولة عن عذابهم فهي في معنى : { نحن أبناء الله وأحباؤه } وهذان القولان يدفعهما قوله : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } .
وقال الكلبي : كانوا مخصبين وقالوا ذلك عناداً واستهزاء وتهكماً انتهى .
والظاهر أن قولهم : يد الله مغلولة خبر ، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام .
أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا ، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب : ابن عباس ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .
أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله : الحسن .
قال الطبري : غلت أيديهم خبر ، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة .
قاله الحسن : أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم قاله الزجاج .
وقيل : هو دعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلِّ الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم .
والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره ، لأن السب أصله القطع .
( فإن قلت ) : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد ؟ ( قلت ) : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم ، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم ، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم ، وتمزّق أعراضهم انتهى كلامه .
وأخرجه جار على طريقة الاعتزال .
والذي يظهر أنّ قولهم : يد الله مغلولة ، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك .
ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة ، ولا يغل إلا المقهور ، فجاء قوله : غلت أيديهم ، دعاء عليهم بغل الأيدي ، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون ، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي ، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم ، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم ، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم : يد الله مغلولة ، وليست هذه المقالة بدعاً منهم فقد قالوا : { إن الله فقير ونحن أغنياء } { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاماً فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه ، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا .
وقرأ أبو السمال : بسكون العين كما قالوا : في عصر عصرون .
لو عصر منه البان والمسك انعصر *** ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين ، فحسن التخفيف .
{ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له ، ولا يشبه بشيء من خلقه ، ولا يكيف ، ولا يتحيز ، ولا تحله الحوادث ، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين .
والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ ، وأضاف ذلك إلى اليدين جارياً على طريقة العرب في قولهم : فلان ينفق بكلتا يديه .
يداك يدا مجد فكف مفيدة *** وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق
ويؤيد أنّ اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق .
ومن نظر في كلام العرب عرف يقيناً أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل ، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون قال الشاعر :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل *** شكرت نداه تلاعه ووهاده
وغداة ريح قد وزعت وقرة *** قد أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال : بسط اليأس كفه في صدري ، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفاً .
قال الزمخشري : ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال : ( فإن قلت ) : لم ثنيت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة ؟ ( قلت ) : ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه ، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه ، وأن يعطيه بيديه جميعاً ، فبنى المجاز على ذلك انتهى .
وقيل عن ابن عباس : يداه نعمتاه ، فقيل : هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدّنيا ، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرّزق والكفاية ، أو الظاهرة والباطنة ، أو نعمة المطر ونعمة النبات ، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا .
وقوله : { لما خلقت بيدي } و { مما عملت أيدينا } و { يد الله فوق أيديهم } و { لتصنع على عيني } و { تجري بأعيننا } و { هالك إلا وجهه } ونحوها .
فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام .
وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب : هذه كلها صفات زائدة على الذات ، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد .
وقال قوم منهم الشعبي ، وابن المسيب ، والثوري : نؤمن بها ونقر كما نصت ، ولا نعين تفسيرها ، ولا يسبق النظر فيها .
وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب ، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين .
وقرأ عبد الله : بسيطتان يقال : يد بسيطة مطلقة بالمعروف .
في مصحف عبد الله : بسطان ، يقال : يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول : ناقة صرح ، ومشية سجح ، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء ، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته ، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في مبسوطتان انتهى .
ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ ، أو على ذي الحال محذوفاً التقدير : ينفق بهما .
قال الحوفي : كيف سؤال عن حال ، وهي نصب بيشاء انتهى .
ولا يعقل هنا كونها سؤالاً عن حال ، بل هي في معنى الشرط كما تقول : كيف تكون أكون ، ومفعول يشاء محذوف ، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم ، كما يدل في قولك : أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير : ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق ، كما تقول : كيف تشاء أن أضربك أضربك ، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جاراً ، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط .
ونظير ذلك قوله : { فيبسطه في السماء كيف يشاء } { وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } علق بكثير ، لأن منهم مَن آمن ومن لا يزداد إلا طغياناً ، وهذا إعلام للرّسول بفرط عتوهم إذ كانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولا يعرفها غيرهم ، لكنْ رتبوا على ذلك غير مقتضاه ، وزادهم ذلك طغياناً وكفروا ، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم .
وقال الزجاج : كلما نزل عليك شيء كفروا به .
وقال مقاتل : وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدّماء .
وقيل : المراد بالكثير علماء اليهود .
وقيل : إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر .
{ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } قيل : الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى ، لأنه جرى ذكرهم في قوله : { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ولشمول قوله : { يا أهل الكتاب } للفريقين وهذا قول : الحسن ، ومجاهد .
وقيل : هو عائد على اليهود ، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية .
والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين ، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ، ولا يقدرون على ضررك ، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك ، لأن الطائفتين لا توادّ بينهم فيجتمعان على حربك .
وفي ذلك إخبار بالمغيب ، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت .
وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله : فكلهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ، ولا تعاضد انتهى .
والعداوة أخص من البغضاء ، لأن كل عدوّ مبغض ، وقد يبغض من ليس بعدوّ .
وقال ابن عطية : وكأنّ العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه .
{ كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } قال قوم : هو على حقيقته وليس استعارة ، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال ، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ، فيتبادرون والجيش يسري ليلاً فيوقد من مرّ بهم ليلاً النار فيكون إنذاراً ، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس ، يكون قريباً من ديارهم رئية للمسلمين مستخف في جبل في غار ، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نار ، فإذا رآها رئية آخر قد أعدّ للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد ناراً ، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان ، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار ، فيعدّ المسلمون للقائهم .
وقيل : إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل ناراً مخافة البيات ، فهذا أصل نار الحرب .
وقيل : كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم أوقدوا ناراً وتحالفوا ، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون ، فلما تقاعدوا عنهم أطفئوها ، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي .
وقال الجمهور : هو استعارة ، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال ، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك ، وتفرّق آرائهم ، وحل عزائمهم ، وتفرّق كلمتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم .
فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس .
وقيل : خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين .
وقال قوم : هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة ، والتهاب شواظ قلوبهم ، وغليان صدورهم .
ومنه الآن حمى الوطيس للجد في الحرب ، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته ، وضرب الإطفاء مثلاً لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كل موطن .
قال مجاهد : هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم ، وإشارة إلى حاضريه من اليهود .
وقال السدّي والربيع وغيرهما : هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هدّ الله ملكهم ، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة ، ولا يقاتلون جميعاً إلا في قرى محصنة .
وقال قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس .
{ ويسعون في الأرض فساداً } يحتمل أن يريد بالسعي نقل الإقدام أي : لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض ، فيكون أبلغ في الاجتهاد ، والظاهر أنه يراد به العمل .
والفعل أي : يجتهدون ، في كيد أهل الإسلام ومحوذ ذكر الرسول من كتبهم .
والأرض يجوز أن يراد بها الجنس ، أو أرض الحجاز ، فتكون أل فيه للعهد .
قال ابن عباس ومقاتل : فسادهم بالمعاصي .
وقال الزجاج : بدفع الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم .
وقيل : بسفك الدماء واستحلال المحارم .
وقيل : بالظلم ، وكل هذه الأقوال متقاربة .
{ والله لا يحب المفسدين } ظاهر المفسدين العموم ، فيندرج هؤلاء فيهم .
وانتفاء المحبة كناية عن كونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه ، فهؤلاء يثيبهم .
وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم ، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب .