تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

المفردات :

يد الله : اليد في كلام العرب تكون : للجارحة ، وللنعمة ، وللقوة ، وللقدرة ، وللصلة ، وللتأييد ، وللنصرة .

مغلولة : الغل : قيد من الجلد ، أو الحديد يوضع في اليد أو العنق . ومرادهم بذلك : أنها مقبوضة ، بخيلة بالعطاء .

مبسوطتان : البسط : المد بالعطاء . والمراد منه هنا : الجود والإعطاء .

أوقدوا نارا للحرب : أوقد النار : أشعلها . والمراد هنا : أثاروا الفتن ، ودبروا المكائد التي تؤدي إلى وقوع الحرب بين الناس .

التفسير :

64- وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ . . . الآية

سبب النزول : جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :

قال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه ، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ قل ما لهم ، فقالوا : إن الله بخيل ، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء ، فالآية خاصة في بعضهم ، وقيل : لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون ، صاروا كأنهم بأجمعهم قالواهذا .

وقال الحسن : المعنى : يد الله مقبوضة عن عذابنا .

وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه ويلم في فقر وقلة مال وسمعوا : مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا . ( البقرة : 245 ) .

ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا : إن إله محمد فقير وربما قالو : بخيل وهذا معنى قولهم : يد الله مغلولة . فهم على التمثيل كقوله : وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ . ( الإسراء : 29 ) .

ويقال للبخيل : جعد الأنامل ، ومقبوض الكف ، وكز الأصابع ومغلول اليد {[286]} .

والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال ، لاسيما في دفع المال وإنفاقه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والخير إلى اليد والكف فقيل للجواد : فياض اليد ، مبسوط الكف ، وقيل للبخيل : مقبوض اليد ، كز الكف . . .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ . أي : أن الله بخيل علينا بما عنده من المال والعطاء والرزق ، أو المراد : أنه فقير لا يجد ما يعطيه لنا ، حيث قالوا في الآية 181 من سورة آل عمران : إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء .

وهذا نوع من جرأة اليهود على الله وسوء أدبهم معه وتوبيخ لهم على جحودهم نعم الله التي لا تحصى .

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ . وهو دعاء عليهم بالشح المرير وبالبخل الشنيع بأن يخلق سبحانه فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ، ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الل ، ه وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله تعالى .

قال الآلوسي : ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدي : الحقيقة أن يغلوا في الدنيا أساري ، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم ، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فيكون تجنيسا ، وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره أي : قطعه ؛ لأن السب أصله القطع {[287]} وقد حقق الله قضاءه فيهم ، فكانوا أبخل الناس في الدنيا ، وأحرصهم على المال ، وباءوا في الآخرة بالخلود في النار .

بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء . أي : ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود ، بل هو سبحانه الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، وما من شيء إلا عنده خزائنه .

فبسط اليد هنا : كناية عن الجود والفضل والأنعام منه- سبحانه- على خلقه وقد أشير بثنية اليد إلى تقرير غاية جوده وغناه .

فإن أقصى ما تصل إليه همة الجواد السخي أن يعطي بكلتا يديه .

وقوله : يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء . جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده ، والدلالة على انه ينفق على مقتضى حكمته ومشيئته ، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقبضه عمن يشاء ؛ لحكمة يعلمها ولا نعلمها .

قال تعالى : وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ( الشورى : 27 ) .

وقال تعالى : قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . ( آل عمران : 26 )

وروى البخاري ومسلم ، وأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قال : أنفق أنفق عليك " {[288]} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء {[289]} الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه ، قال : وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض . {[290]}

قال القرطبي :

يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء . يرزق كما يريد ويجوز أن يكون اليد في هذه الآية بمعنى : القدرة أي : قدرته شاملة إن شاء وسع وإن شاء قتر .

وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا . المراد بالكثير : علماء اليهود ورؤساؤهم ، أي : إذا نزل شيء من القرآن فكفروا به ؛ ازداد كفرهم .

والقرآن بطبيعته كتاب هداية وشفاء للنفوس من ضلالها لكن اليهود قوم أكل الحقد قلوبهم واستولى الحسد على نفوسهم فهم يضمون إلى حقدهم القديم وكفرهم السابق كفرا جديدا بكل ما نزل عليك يا محمد .

قال تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا . ( الإسراء : 82 ) .

وقد أكد الله هذه الجملة بالقسم المطوى وباللام الموطئة له ، وبنون التوكيد الثقيلة ؛ لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع .

وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . قال ابن عطية : وكأن العداوة . شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس .

والمعنى : وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة ، العداوة الدائمة والبغضاء المستمرة ، فلا تتوافق قلوبهم ، ولا تتطابق أقوالهم أبدا إلى يوم القيامة .

ولقد كانوا كذلك طوال تاريخهم ، منذ أن أرسل إليهم الرسل ودأبوا على قتل الأنبياء بغير حق ، ثم كذبوا محمد صلى الله عليه وسلم ، واستمروا على اقتراف حرائمهم ، وازدادوا فيها ، قال تعالى : بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى . . ( الحشر : 14 )

كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ . أي : كلما هموا بحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفسد الله عليهم خطتهم وأحبط مكرهم ، وألقى الرعب في قلوبهم ، او كلما حاربوا أحدا أو جماعة غلبوا وهزموا ، وقد كان أمرهم كذلك على مدى التاريخ .

جاء في تفسير القرطبي :

وقيل : إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله- التوراة- أرسل الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم تيطس الرومي ، ثم أفسدوا فبعث عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث عليهم المسلمين فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله كلما أوقدوا نارا أي : أهاجوا شرا ، وأجمعوا أمرهم على الحرب قهرهم الله ووهن أمرهم فذكر النار مستعار {[291]} .

والعرب كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم أوقدوا نارا يسمونها : نار الحرب .

وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . أي : أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله ، وأنهم يسعون سعيا حثيثا للإفساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن وإيقاظ الأحقاد بين الناس .

وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . بل يبغضهم ويمقتهم ؛ لإيثارهم الضلالة على الهدى والشر على الخير .

وقد كانت أصابع اليهود وراء نيران الحروب والعداوة في تاريخهم الطويل .

ومنذ القدم واليهود كلما جمعوا جموعهم وأعدوا عدتهم لإيذاء الناس ، أو إشعال نار الفتنة على عباد الله ؛ شتت الله شملهم ، وخيب رجاءهم ودمر كيدهم .


[286]:تفسير القرطبي 6/238.
[287]:تفسير الآلوسي 6/108 ،والتفسير الوسيط حزب 12 ص 1111.
[288]:أنفق أنفق عليك: رواه البخاري في تفسير القرآن (4648) وفي النفقات (5352) وفي التوحيد (7496) ومسلم في الزكاة (993) وابن ماجه في الكفارات (2123) وأحمد في مسنده (7256) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال قال الله
[289]:يمين الله ملأي: رواه البخاري في التوحيد (7419) ومسلم في الزكاة (993) وابن ماجه في المقدمة (197) واحمد في مسنده (7256) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن يمين الله ملأي لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى الفيض أو القبض يرفع ويخفض.
[290]:انظر تفسير القرطبي وفيه: السح الصب الكثير ،ويغيض: ينقص. وبالهامش "الليل والنهار" قال النووي: هو بنصب الليل والنهار ورفعهما بالنصب على الظرف، والرفع على الفاعل.
[291]:تفسير القرطبي6/240.