الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

قوله : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) الآية [ 66 ] .

هذه الآية من أدل دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ أخبرهم بمكنون( {[17066]} ) سرهم وخفي اعتقادهم( {[17067]} ) . ومعنى قولهم ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) : " خير الله مُمسَك " ( {[17068]} ) وعطاؤه محبوس عن الاتساع( {[17069]} ) عليهم( {[17070]} ) واليد –هنا- بمنزلة قوله تعالى في تأديب نبيه : ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ )( {[17071]} ) أي : لا تقتر( {[17072]} ) في النفقة( {[17073]} ) حتى تضر بنفسك وبمن( {[17074]} ) معك ، ( ( وَ )( {[17075]} ) لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ( {[17076]} ) ) أي : لا تسرف في الإنفاق والتبذير( {[17077]} ) ، فتبقى( {[17078]} ) لا شيء لك . وإنما خصت اليد بأن( {[17079]} ) جعلت في موضع الإمساك والإنفاق ، لأن عطاء الناس وبذلهم( {[17080]} ) مَعْروفهم ، الغالب( {[17081]} ) عليه باليد ، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضاً بالكرم( {[17082]} ) أو بالبخل بأن أضافوه إلى اليد التي بها يكون العطاء( {[17083]} ) والإمساك فخوطبوا بما يتعارفونه( {[17084]} ) في كلامهم ، فحكى الله عن اليهود أنهم قالوا ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي : أنه يبخل علينا بالعطاء كالذي يده مغلولة عن العطاء ، تعالى الله عما قال أعداء الله علواً كبيراً( {[17085]} ) .

وقال بعض المفسرين ( في )( {[17086]} ) معنى الآية : نعمة الله مقبوضة عنا( {[17087]} ) .

لأنهم كانوا إذا نزل( {[17088]} ) بهم خير ، / قالوا : يد الله مبسوطة علينا ، وإذا نزل بهم ضيق وجدْبٌ( {[17089]} ) ، قالوا : يد الله مقبوضة عنا ، أي : نعمته( {[17090]} ) وأفضاله( {[17091]} ) .

وقد قيل : في قوله ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) : أنهما مطر السماء ونبات الأرض ، لأن النعم ( بهما( {[17092]} ) ومنهما )( {[17093]} ) تكون( {[17094]} ) .

قوله : ( غُلَّتَ اَيْدِيهِمْ ) أي : من الخير( {[17095]} ) ، ( وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) أي : أبعدوا من رحمة الله عز وجل لقولهم ذلك( {[17096]} ) . وقيل : غلت في الآخرة ، وهو دعاء عليهم( {[17097]} ) .

ثم قال تعالى –راداً( {[17098]} ) لما حكى من قولهم- : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) أي : بالبذل والإعطاء( {[17099]} ) ، ( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) أي : يعطي : فيحرم هذا ويُقَتِّرُ عليه ، ويُوسِّع على هذا( {[17100]} ) .

قال عكرمة ومجاهد والضحاك : قولهم ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) معناه : أنه بخيل ليس بالجواد . وكذلك معنى قول ابن عباس وغيره( {[17101]} ) .

قوله : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) قيل : معناه : نعمتاه الظاهرة والباطنة على خلقه مبسوطتان( {[17102]} ) . وقيل : معناه : نعمتاه( {[17103]} ) ، يعني نعمته( {[17104]} ) في الدنيا ونعمته في الآخرة( {[17105]} ) . والعرب تقول : " لفلان عند فلان يد " ، أي نعمة( {[17106]} ) . وقيل : عنى بذلك القوة ، كقوله : ( أُوْلِي الاَيْدِي وَالاَبْصَارِ )( {[17107]} ) أي : أصحاب القوة والبصائر في الدين( {[17108]} ) .

وقد قيل في معنى قولهم : ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي : عن عذابنا ، [ أي يده مقبوضة عن عذابنا( {[17109]} ) ، و ]( {[17110]} ) معنى ( مَبْسُوطَتَانِ ) أي : [ مطلقتان ]( {[17111]} ) .

واليد –عند أهل النظر والسنة في هذا الموضع وما كان مثله- صفة من صفات الله ، ليست بجارحة( {[17112]} ) ، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )( {[17113]} ) ، فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله ، إذ ليس كمثله شيء ، و( أن ما )( {[17114]} ) وقع من ذكر هذا وشبهه ، وذكر المجيء والإتيان ، صفات لله( {[17115]} ) ، لا أنها( {[17116]} ) فيها انتقال وحركة وجارحة ، فسبحان من ليس كمثله شيء من جميع الأشياء ، فلو أنك أثبت له حركة أو انتقالاً أو جارحة لكنت( {[17117]} ) قد جعلته كبعض( {[17118]} ) الأشياء الموجودة ، وقد قال : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )( {[17119]} ) ، فاحذر أن يتصور في عقلك أن البارئ جل ذكره يشبه شيئاً من الأشياء التي عقلت وفهمت ، ومتى فعلت شيئاً من هذا فقد ألحدت ، وأهل السنة يقولون : ان يديه غير نعمته( {[17120]} ) .

وقوله : ( وَلَيَزِدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ) أي : ليزيدنهم ما أطلعناك عليه من خفي اعتقادهم ، وسوء( {[17121]} ) مذهبهم ، ( طُغْيَاناً ) عن الإيمان بك ، ( وكُفْراً ) بما جئت به( {[17122]} ) .

( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) أي : بين اليهود والنصارى( {[17123]} ) . وهو مردود إلى قوله : ( لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ )( {[17124]} ) .

( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطفَأَهَا( {[17125]} ) اللَّهُ ) أي : كلما أجمعوا أمرهم على شيء شتته الله وأفسده عليهم( {[17126]} ) . قال قتادة : ( لن تلقى )( {[17127]} ) يهودياً ببلد إلا وجدته ( من )( {[17128]} ) أذل أهل ذلك البلد ، ولقد جاء الإسلام –حين ( جاء- وهم )( {[17129]} ) تحت أيدي المجوس أبغض( {[17130]} ) خلق الله إليه( {[17131]} ) .

وهو كلام تمثيل ، وتحقيقه( {[17132]} ) : كلما تجمعوا لتفريق المؤمنين وحربهم( {[17133]} ) ، شتتهم الله و[ محقهم ]( {[17134]} ) .

( وَيَسْعَوْنَ فِي الاَرْضِ فَسَاداً ) أي : يسعون في إبطال الإسلام ، والكفر برسوله وآياته( {[17135]} ) ، ( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) أي : " من كان عاملاً بمعاصيه " ( {[17136]} ) .


[17066]:- ج: بمكنى.
[17067]:- انظر: تفسير الطبري 10/450.
[17068]:- مجاز أبي عبيدة 1/170.
[17069]:- ب: الاتمناع.
[17070]:- انظر: تفسير الطبري 10/450.
[17071]:- الإسراء: 29.
[17072]:- ب: تفتر.
[17073]:- انظر: معاني الفراء 1/315، ومعاني الزجاج 3/189.
[17074]:- ب ج د: من.
[17075]:- ساقطة من ب.
[17076]:- الإسراء: 29.
[17077]:- ب: العدين.
[17078]:- د: فتعقد.
[17079]:- ب ج د: أن.
[17080]:- ب ج د: بذل.
[17081]:- د: العالب.
[17082]:- ب: فالكرم.
[17083]:- ب: العضا.
[17084]:- ج د: يتعارفون.
[17085]:- انظر: تفسير الطبري 10/451.
[17086]:- ساقطة من ب ج د.
[17087]:- ج د: علينا. "وهذا القول خطأ، ينقضه: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)" معاني الزجاج 2/189.
[17088]:- ب: نزلت، تاء بدون تنقيط.
[17089]:- ج: جذب.
[17090]:- ج د: نعمة الله.
[17091]:- انظر: المحرر 5/148، والتفسير الكبير 12/41.
[17092]:- مخرومة الأول في أ.
[17093]:- ب: منهما ولهما، ج د: منهما وبهما.
[17094]:- مخرومة في أ، وعليها علامة تضبيب، وانظر: المحرر 5/150، وأحكام القرطبي 6/239، وتفسير البحر 3/524.
[17095]:- "أي جُعِلوا بخلاء" معاني الزجاج 2/190.
[17096]:- انظر: تفسير الطبري 10/452.
[17097]:- انظر: التفسير الكبير 12/41، وأحكام القرطبي 6/239.
[17098]:- ب ج د: ردا.
[17099]:- انظر: معاني الزجاج 2/190.
[17100]:- انظر: تفسير الطبري 10/452.
[17101]:- انظر: تفسير مجاهد 312، وهو قول قتادة والسدي أيضاً في تفسير الطبري 10/452 وما بعدها.
[17102]:- انظر: التفسير الكبير 12/41، وأحكام القرطبي 6/239.
[17103]:- ب: نعمته نعمتاه.
[17104]:- ب: نعمة.
[17105]:- انظر: معاني الزجاج 2/89، وأحكام القرطبي 6/239.
[17106]:- انظر: تفسير الطبري 10/454، حيث وردت حكاية قول بعضهم: "عنى بذلك: نعمتاه" من غير تفصيلها إلى الظاهرة والباطنة أو الدنيوية والأخروية وانظر: أحكام القرطبي 6/238.
[17107]:- ص 44. وانظر: تفسير الطبري 10/454.
[17108]:- انظر: التفسير الكبير 12/43، وأحكام القرطبي 6/237.
[17109]:- انظر: معاني الزجاج 2/190، والتفسير الكبير 12/41، وهو قول الحسن في أحكام القرطبي 6/338.
[17110]:- ساقطة من أ.
[17111]:- أ: منطلقتان. ب: مصلقتان. وانظر: تفسير البحر 3/524، واللسان: بسط.
[17112]:- انظر: تفسير الطبري 10/454.
[17113]:- الشورى: 9.
[17114]:- ب: إنما. ج د: انما ما.
[17115]:- ب: الله.
[17116]:- ب ج د: أن.
[17117]:- ح: لكنك.
[17118]:- ج: كبعد.
[17119]:- الشورى: 9.
[17120]:- انظر: التفصيل في الرد على المجسّمة وإثبات مذهب السلق بشأن هذا في التفسير الكبير 12/42 و43، وانظر: أحكام القرطبي 6/238 و239، وتفسير البحر 3/523 و524، وانظر: تفصيل الأشعري في رد معنى اليد: النعمة في الإبانة 125 وما بعدها، وفي شرح الفقه الأكبر 58 أن لله يداً: كما يليق بذاته وصفاته"، وكذا في كتاب التوحيد 53-76 حيث ثلاث عشرة سنة بأسانيدها، ورد زعم الجهمية المعطلة بأن معنى اليد: النعمة. وانظر: تحفة المريد 93.
[17121]:- ب: سود.
[17122]:- انظر: تفسير الطبري 10/456 و457، وانظر: قول قتادة فيه 10/457.
[17123]:- هو قول مجاهد في تفسير الطبري 10/458.
[17124]:- المائدة: 53. وانظر: تفسير الطبري 10/458.
[17125]:- د: اضفاها.
[17126]:- انظر: تفسير الطبري 10/458، ومعاني الزجاج 2/190.
[17127]:- ب: ان نها.
[17128]:- ساقطة من ج.
[17129]:- ب: جاءهم.
[17130]:- ب: انفض.
[17131]:- انظر: تفسير الطبري 10/460.
[17132]:- مخرومة الأول أ. ب: الحقيقة.
[17133]:- ب: حزبهم.
[17134]:- أ: أمحقهم و"يعني حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأ الله نارهم" تفسير مجاهد 312، وانظر: تفسير الطبري 10/461، ومعاني الزجاج 2/190، والمحْق: النقصان وذهاب البركة والخير. وقد مَحَقَ وَامَّحَقَ وَامْتَحَقَ وَمَحَقَهُ، وَأَمْحَقَهُ: لغة، وأباها الأصمعي وعند الجوهري أنها لغة رديئة. انظر: اللسان: محق.
[17135]:- انظر: تفسير الطبري 10/461، ومعاني الزجاج 2/191.
[17136]:- انظر: المصدر السابق.