قوله : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) الآية [ 66 ] .
هذه الآية من أدل دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ أخبرهم بمكنون( {[17066]} ) سرهم وخفي اعتقادهم( {[17067]} ) . ومعنى قولهم ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) : " خير الله مُمسَك " ( {[17068]} ) وعطاؤه محبوس عن الاتساع( {[17069]} ) عليهم( {[17070]} ) واليد –هنا- بمنزلة قوله تعالى في تأديب نبيه : ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ )( {[17071]} ) أي : لا تقتر( {[17072]} ) في النفقة( {[17073]} ) حتى تضر بنفسك وبمن( {[17074]} ) معك ، ( ( وَ )( {[17075]} ) لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ( {[17076]} ) ) أي : لا تسرف في الإنفاق والتبذير( {[17077]} ) ، فتبقى( {[17078]} ) لا شيء لك . وإنما خصت اليد بأن( {[17079]} ) جعلت في موضع الإمساك والإنفاق ، لأن عطاء الناس وبذلهم( {[17080]} ) مَعْروفهم ، الغالب( {[17081]} ) عليه باليد ، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضاً بالكرم( {[17082]} ) أو بالبخل بأن أضافوه إلى اليد التي بها يكون العطاء( {[17083]} ) والإمساك فخوطبوا بما يتعارفونه( {[17084]} ) في كلامهم ، فحكى الله عن اليهود أنهم قالوا ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي : أنه يبخل علينا بالعطاء كالذي يده مغلولة عن العطاء ، تعالى الله عما قال أعداء الله علواً كبيراً( {[17085]} ) .
وقال بعض المفسرين ( في )( {[17086]} ) معنى الآية : نعمة الله مقبوضة عنا( {[17087]} ) .
لأنهم كانوا إذا نزل( {[17088]} ) بهم خير ، / قالوا : يد الله مبسوطة علينا ، وإذا نزل بهم ضيق وجدْبٌ( {[17089]} ) ، قالوا : يد الله مقبوضة عنا ، أي : نعمته( {[17090]} ) وأفضاله( {[17091]} ) .
وقد قيل : في قوله ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) : أنهما مطر السماء ونبات الأرض ، لأن النعم ( بهما( {[17092]} ) ومنهما )( {[17093]} ) تكون( {[17094]} ) .
قوله : ( غُلَّتَ اَيْدِيهِمْ ) أي : من الخير( {[17095]} ) ، ( وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) أي : أبعدوا من رحمة الله عز وجل لقولهم ذلك( {[17096]} ) . وقيل : غلت في الآخرة ، وهو دعاء عليهم( {[17097]} ) .
ثم قال تعالى –راداً( {[17098]} ) لما حكى من قولهم- : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) أي : بالبذل والإعطاء( {[17099]} ) ، ( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) أي : يعطي : فيحرم هذا ويُقَتِّرُ عليه ، ويُوسِّع على هذا( {[17100]} ) .
قال عكرمة ومجاهد والضحاك : قولهم ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) معناه : أنه بخيل ليس بالجواد . وكذلك معنى قول ابن عباس وغيره( {[17101]} ) .
قوله : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) قيل : معناه : نعمتاه الظاهرة والباطنة على خلقه مبسوطتان( {[17102]} ) . وقيل : معناه : نعمتاه( {[17103]} ) ، يعني نعمته( {[17104]} ) في الدنيا ونعمته في الآخرة( {[17105]} ) . والعرب تقول : " لفلان عند فلان يد " ، أي نعمة( {[17106]} ) . وقيل : عنى بذلك القوة ، كقوله : ( أُوْلِي الاَيْدِي وَالاَبْصَارِ )( {[17107]} ) أي : أصحاب القوة والبصائر في الدين( {[17108]} ) .
وقد قيل في معنى قولهم : ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي : عن عذابنا ، [ أي يده مقبوضة عن عذابنا( {[17109]} ) ، و ]( {[17110]} ) معنى ( مَبْسُوطَتَانِ ) أي : [ مطلقتان ]( {[17111]} ) .
واليد –عند أهل النظر والسنة في هذا الموضع وما كان مثله- صفة من صفات الله ، ليست بجارحة( {[17112]} ) ، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )( {[17113]} ) ، فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله ، إذ ليس كمثله شيء ، و( أن ما )( {[17114]} ) وقع من ذكر هذا وشبهه ، وذكر المجيء والإتيان ، صفات لله( {[17115]} ) ، لا أنها( {[17116]} ) فيها انتقال وحركة وجارحة ، فسبحان من ليس كمثله شيء من جميع الأشياء ، فلو أنك أثبت له حركة أو انتقالاً أو جارحة لكنت( {[17117]} ) قد جعلته كبعض( {[17118]} ) الأشياء الموجودة ، وقد قال : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )( {[17119]} ) ، فاحذر أن يتصور في عقلك أن البارئ جل ذكره يشبه شيئاً من الأشياء التي عقلت وفهمت ، ومتى فعلت شيئاً من هذا فقد ألحدت ، وأهل السنة يقولون : ان يديه غير نعمته( {[17120]} ) .
وقوله : ( وَلَيَزِدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ) أي : ليزيدنهم ما أطلعناك عليه من خفي اعتقادهم ، وسوء( {[17121]} ) مذهبهم ، ( طُغْيَاناً ) عن الإيمان بك ، ( وكُفْراً ) بما جئت به( {[17122]} ) .
( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) أي : بين اليهود والنصارى( {[17123]} ) . وهو مردود إلى قوله : ( لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ )( {[17124]} ) .
( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطفَأَهَا( {[17125]} ) اللَّهُ ) أي : كلما أجمعوا أمرهم على شيء شتته الله وأفسده عليهم( {[17126]} ) . قال قتادة : ( لن تلقى )( {[17127]} ) يهودياً ببلد إلا وجدته ( من )( {[17128]} ) أذل أهل ذلك البلد ، ولقد جاء الإسلام –حين ( جاء- وهم )( {[17129]} ) تحت أيدي المجوس أبغض( {[17130]} ) خلق الله إليه( {[17131]} ) .
وهو كلام تمثيل ، وتحقيقه( {[17132]} ) : كلما تجمعوا لتفريق المؤمنين وحربهم( {[17133]} ) ، شتتهم الله و[ محقهم ]( {[17134]} ) .
( وَيَسْعَوْنَ فِي الاَرْضِ فَسَاداً ) أي : يسعون في إبطال الإسلام ، والكفر برسوله وآياته( {[17135]} ) ، ( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) أي : " من كان عاملاً بمعاصيه " ( {[17136]} ) .