ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من سوء معتقد اليهود ، وخبث طويتهم ، وسوء أدبهم مع الله - تعالى - فقال :
{ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ . . . }
قال ابن عباس : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق . فأنزل الله هذه الآية .
وقد أضاف - سبحانه - المقالة إلى اليهود جميعا ، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به .
وقال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه . فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قل ما لهم ، فقالوا ما قالوا .
وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } قالوا : إن إله محمد بخيل .
وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } إخبار من الهل عن جراءة اليهود عليه - سبحانه - وسوء أدبهم معه ، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التي لا تحصى .
وأرادوا بقولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } : أنه - سبحانه - بخيل عليهم ، ممسك خيره عنهم ، مانع فضله عن أن يصل إلهم ، حابس عطاءه عن الاتساع لهم ، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف .
وأصل الغل - كما يقول الراغب - تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر . والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال .
وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم ، لأن الله - تعالى - منزه عن مشابهة الحوادث . وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء .
والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال ، لا سيما في دفع المال وإنفاقه . فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد ، مبسوط الكف ، وقيل للبخيل : مقبوض اليد ، كز الكف .
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : " غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود " ومنه قوله - تعالى - { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط . ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة ، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قد ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها . ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود .
وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقول القائل :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل . . . شكرت نداه تلاعه ووهاده
ويقال : بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفين .
وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف " غل اليد وبسطها مجاز " فقال : والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا ، وهي بسط اليد للجود وقبضها للبخل ، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن ، فلما كان الجود والبخل معنيين لا يدركان بالحس .
عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإِيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات .
وقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا } دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق - سبحانه - فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله ، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - بسبب سوء أدبهم معه - سبحانه - وجحودهم لنعمه .
وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم ، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم ، فقالوا في شأنه ما هو منزه عنه - { وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } قال الآلوسي ما ملخصه : ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدي الحقيقة ، بأن يغلو في الدنيا أسارى - وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم . ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقد فيكون تجنيسا . وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله : سبني سب الله دابره أي قطعه ، لأن السب أصله القطع .
وقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } معطوف على مقدر يقتضيه المقام ، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل .
والمعنى : كلا - أيها اليهود - ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل ، بل هو - سبحانه - الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه .
فبسط اليد هنا كناية عن الجواد والفضل والإِنعام منه - سبحانه - على خلقه .
وعبر بالمثنى فقال : { بَلْ يَدَاهُ } للإِشارة إلى كثرة الفيض والإِنعام ، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء أعطى بكلتا يديه .
قال ابن كثير قوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي : بل هو الواسع الفضل . الذي ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له . كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } والآيات في هذا كثيرة .
وقد روى الإِمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة - أي لا ينقصها الإِنفاق - سحاء - أي مليئة - الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه . وكان عرشه على الماء ، وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال : يقول الله - تعالى - : أنفق أنفق عليك " .
وقوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده ، والدلالة على أنه على مقتضى حكمته ومشيئته فهو - سبحانه - يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقبضه عمن يشاء أن يقبضه عنه ، وقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه لا ينافي سعة كرمه ، لأنه يعطي ويمنع على حسب مشيئته التي أقام بها نظام خلقه .
ثم بين - سبحانه - موقفهم الجحودي مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } .
أي : إن ما أنزلنا عليك يا محمد من قرآن كريم ، وما أطلعناك عليه من خفى أمور هؤلاء اليهود ، ومن أحوال سلفهم كل ذلك ليزيدن الكثيرين منهم كفرا على كفرهم ، وطغيانا على طغيانهم ، وذلك لأنهم قوم أكل الحقد قلوبهم ، واستولى الحسد على نفوسهم .
وإذا كان ما أنزلناه إليك يا محمد فيه الشفاء لنفوس المؤمنين ، فإنه بالنسبة لهؤلاء اليهود يزيديهم بغيا وظلما وكفرا .
قال - تعالى - : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } فالجملة الكريمة بيان لموقف اليهود الجحودي من الآيات التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي في الوقت ذاته تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يلقاه منهم .
وقد أكد - سبحانه - هذه الجملة بالقسم المطوي ، وباللام الموطئة له ، ونون التوكيد الثقيلة لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم ، وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة ، وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع .
وقوله { كثيراً } هو المفعول الأول لقوله { وليزيدن } وفاعله ما الموصولة في قوله { ما أنزل } وقوله { طغيانا } هو المفعول الثاني .
ثم زاد - سبحانه - في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم فأصدر حكمه فيهم بدوام العداوة والبغضاء بين طوائفهم وفرقهم فقال : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } فالضمير في قوله { بينهم } يعود إلى فرق اليهود المختلفة من فريسيين وصدوقيين وقرائين ، وكتبة وغير ذلك من فرقهم المتعددة .
وقيل : الضمير يعود إلى طائفتي اليهود والنصارى .
والأول أرجح لأن الحديث في هذه الآية عن اليهود الذين وصفوا الله - تعالى - بما هو منزه عنه .
والعداوة والبغضاء يرى بعضهم أنهما اسمان لمعنى واحد .
ويرى آخرون أن معناهما مختلف . فالعداوة معناها المناوأة الظاهرة ، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب . فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا . فلا عداوة من غير بغضاء ، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة .
قال أبو حيان : والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو . وقال ابن عطية : وكأن العداوة شيء يشهد ، يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس .
والمعنى : وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة العداوة الدائمة ، والبغضاء المستمرة ، فأنت تراهم كلمتهم مختلفة ، وقلوبهم شتى وكل فرقة منهم تلصق النقائص بالأخرى ، وهم على هذه الحال إلى يوم القيامة .
وما أظهره اليهود في هذا العصر من تعاون وتساند جعلهم ينشئون دولة لهم بفلسطين ، هو أمر مؤقت ، فإن هذه الدولة لن تستمر طويلا ، بل ستعود إلى أهلها المسلمين متى صدقوا في جهادهم واتبعوا تعاليم دينهم .
قال الفخر الرازي : واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه - تعالى - بين أن هؤلاء اليهود إنما ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم بعد ظهورالدلائل على صحتها ، لأجل الحسد . ولأجل حب الجاه والمال . ثم إنه - تعالى - بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أنه - تعالى - كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته . . فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم . وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا . ويحارب بعضهم بعضاً .
فإن قلت : فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيبا على الكتابين حتى يذموا عليه ؟
قلنا : بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين . أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على الكتابين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن .
وقوله : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } أي : كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهيأوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم . كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم ، وأحبط مكرهم ، وألقى الرعب في قلوبهم .
والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حرباً بالإِغارة على غيرهم أوقدوا ناراً يسمونها نار الحرب .
والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر - سبحانه - عن إثارة الحروب بإيقاد نارها . باعتبارها أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعمرة في أخطارها ومصائبها .
وقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التي دمغ الله - تعالى - بها اليهود .
أي : أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للاسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثاً للافساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن ، وإيقاظ الأحقاد بين الناس . والله - تعالى - لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم ، لإِيثارهم الضلالة على الهدى ، والشر على الخير .
وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود في نسبتهم البخل إلى الله - تعالى - وبينت أنه - سبحانه - هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه - سبحانه - يبغضهم لأنهم يفسدون في الأرض ولايصلحون .
ولقد بسطنا القول في مظاهر فسادهم في الأرض في غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت .