غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

59

{ وقالت اليهود يد الله مغلولة } قيل : في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون على أنا لا نقول ذلك ، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة لأن الله اسم لموجود قديم قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة . والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم ، فلعل القوم قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } قالوا من احتاج إلى القرض كان فقيراً عاجزاً مغلول اليدين ، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الفقر والضر قالوا : إن إله محمد كذلك . وقال الحسن : أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب . وقيل : لعلهم كانوا على مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالى موجب لذاته ، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره على غير ذلك النسق بغل اليد . وقال المفسرون : كان اليهود أكثر الناس مالاً وثروة ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا : يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة النعت بالبخل ، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ . وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله :{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط }[ الإسراء :29 ] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه ، فأطلقوا اسم السبب على المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد سبط البنان رطب الأنامل ، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل ، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع : ما أبسط يده بالنوال . وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد :

قد أصبحت بيد الشمال زمامها *** . . .

فجازاهم الله تعالى بقوله : { غلت أيديهم } وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم ، دعا به عليهم تعليماً لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله :{ لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين }[ الفتح :29 ] وكما عملهم الدعاء على المنافقين في قوله :{ فزادهم الله مرضاً }[ البقرة :10 ] وعلى أبي لهب في قوله :{ تبت يدا أبي لهب }[ المسد :1 ] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة أو إخباراً . قال الحسن : يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز . وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله : { غلت أيديهم } كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره . { ولعنوا بما قالوا } قال الحسن : عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار . ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقى الناس كان قد سمع بهذه الآية ، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوباً بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين ، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال : أين هذه الآية يعني قوله : { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } فأروه إياها فمحاها ، فلم يمض أسبوع إلاّ وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله . ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله : { بل يداه مبسوطتان } واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة - وهو ظاهر - وعلى النعمة . يقال : لفلان عندي يد أشكرها له . وعلى القوة مثل :{ أولي الأيدي والأبصار }[ ص :45 ] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا . والمعنى سلب كمال القدرة . وعلى الملك تقول : هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى :{ بيده عقدة النكاح }[ البقرة :237 ] وقد يراد به شدة العناية قال :{ لما خلقت بيدي }[ ص :75 ] ويقال : يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئاً . ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافاً للمجسمة ، وأما سائر المعاني فلا بأس بها . وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله . وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله :{ لما خلقت بيدي }[ ص :75 ] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة :{ يد الله فوق أيديهم }[ الفتح :10 ] . وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية ، وبإثبات الأيدي أخرى :{ مما عملت أيدينا أنعاماً }[ يس :71 ] ووجه التوحيد والجمع ظاهر . وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله ، أو المراد نعمة الدين نعمة الدنيا ، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن ، أو نعمة النفع ونعمة الدفع ، أو نعمته على أهل اليمين ونعمته على أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء ، أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو : لبيك وسعديك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وإسعاداً بعد إسعاد .

ثم أكد الوصف بالقدرة والسخاء فقال : { ينفق كيف يشاء } وفيه أنه لا ينفق إلاّ على مقتضى الحكمة وقانون العدالة وعلى حسب المشيئة والإرادة ، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئاً أو اعترض على فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلى ما لا يليق به . { وليزيدن } جواب قسم محذوف { كثيراً منهم } يعني علماء اليهود { ما أنزل إليك من ربك } من القرآن والحجج { طغياناً وكفراً } مجاوزة ي الحد وغلواً في الإنكار لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرهاً { وألقينا بينهم } بين اليهود والنصارى - قاله مجاهد والحسن - أو فيما بين اليهود { العداوة والبغضاء } لا تأتلف كلمتهم ولا تتساعد أفئدتهم ، فمن اليهود جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، ومن النصارى ملكانية ونسطورية ، وكل ذلك الاختلاف يوجب السخط واللعن بخلاف هذه الأمة فإن اختلافهم رحمة ولتفرق أهوائهم وتشعب آرائهم { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } فلا يهمون بأمر من الأمور إلاّ وقد رجعوا بخفي حنين . وقيل : كلما حاربوا رسول الله غلبوا . وعن قتادة : لا تلقى اليهود بلدة إلاّ وجدتهم أذل الناس { ويسعون في الأرض فساداً } يستخفون كيداً للإسلام وذويه { والله لا يحب المفسدين } فلا ينجح لهم كيد ولا ينتج لهم سعي . وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين إلى يوم القيامة .

/خ69