تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

وقوله تعالى : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } الآية . قال الحسن : قوله تعالى : { يد الله مغلولة } أي محبوسة ممنوعة عن تعذيبنا لقولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ الآية : 18 ] . وقوله تعالى : { غلت أيديهم } في الآخرة بالسلاسل إلى أعناقهم . وقوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } . بالمغفرة والتعذيب { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } [ البقرة : 248 و آل عمران : 129 و . . . ] .

وقال ابن عباس رضي الله عنه قولهم : { يد الله مغلولة } لا يعنون بذلك أن يده موثقة مغلولة حقيقة اليد والغل ، ولكن وصفوه بالبخل ، وقالوا : أمسك ما عنده بخلا منه . تعالى الله عن ذلك .

وقال آخرون : إن الله ، تبارك ، وتعالى ، قد كان بسط على اليهود الرزق فكانوا من أخصب الناس وأكثرهم خيرا . فلما عصوا الله في محمد ، [ عليه أفضل الصلوات ] ، وكفروا به ، وبدلوا نعمة الله كفروا بالنعمة ، كف الله تعالى عنهم بعض الذي بسط عليهم من السعة في الرزق . فعند ذلك قالوا : { يد الله مغلولة } لم يقولوا : يده مغلولة إلى عنقه ، ولكن ممسكة عنهم الرزق ، فلا تبسط كما كان يبسط ، وهو كقوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] نهي عن البخل في الإنفاق ، لا أنه أراد حقيقة [ غل يده ] إلى عنقه . فعلى ذلك قولهم : { يد الله مغلولة } كناية عن البخل ووصف به ، لا حقيقة الغل ، وبالله العصمة .

وتأويل قوله تعالى : { غلت أيديهم } على هذا التأويل أي أيديهم هي الممسكة عن الإنفاق ، وهم الموصوفون بالبخل والشح : { بل يداه مبسوطتان } أي نعمه مبسوطة ؛ يوسع على من يشاء ، ويقتر على من يشاء . وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه بل يداه بسطان . قال الفراء : يقال : وجه مبسوط ، ووجه بسط

ثم لا يحتمل أن يفهم من إضافة اليد إلى الله ما يفهم من الخلق لما وُجِد إضافة اليد إلى من لا يحتمِل أن يكون له اليد . من ذلك قوله تعالى : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ( فصلت 42 ) . لا يفهم من القرآن اليد كما يفهم من الخلق ، فعلى ذلك لا يجوز أن يفهم من إضافة اليد إلى الله تعالى كما فهم من الخلق . ألا ترى أنه قال : ( ذلك بما قدمت يداك ) ( الحج 10 ) [ وقال ]{[6876]} : ( فبما كسبت أيديكم ) ( الشورى 30 ) لم يفهم منه اليد نفسها ؟ {[6877]} . وكذلك قوله : ( ذلك بما قدمت أيديكم ) ؟ ( آل عمران 182 ) لكن أضيف ذلك إلى اليد لما باليد يقدم ، ويعطي ، ويكسب . ألا ترى أنه قال تعالى : ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) ؟ ( الحجرات 1 ) ؟ ومعلوم أنه لم يفهم من اليد نفسها ، ولكن أضيف ذلك إليه لِما ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( ولعنوا بما قالوا ) قيل : عذبوا بما قالوا : ( يد الله مغلولة ) ، واللعن هو الطرد ، كأنه قال : طردوا عن رحمة الله ، ولا يؤمنون{[6878]} ، فماتوا على ذلك ، فذلك دليل رسالته عليه السلام ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك ) قيل فيه بوجهين :

قيل : يزيد ما أنزل الله إليك من القرآن كثيرا منهم ، يعني اليهود ( طغيانا وكفرا ) .

وقيل : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك ) من البيان عما تركوا من بعثه{[6879]} وصفته [ اللذين كانا ]{[6880]} في كتابهم ، وما حرفوا فيه ، وغيّروه من الأحكام ، فذلك مما زادهم ( طغيانا وكفرا ) .

قيل : ( طغيانا ) أي تماديا بالمعصية ( وكفرا ) بالقرآن . وقيل : الطغيان هو العدوان ، وهو المجاوزة عن الحد الذي حُدّ . فإن قيل : ما معنى إضافة زيادة الطغيان إلى القرآن ، والقرآن لا يزيد طغيانا ولا كفرا ؟ قيل : إضافة الأفعال إلى الأشياء تكون لوجوه{[6881]} ثلاثة : منها ما يضاف لحقيقة الفعل لها{[6882]} . ومنها ما يضاف للأحوال ، ومنها ما يضاف لمكان ما به يكون الفعل ، وههنا أضيف ذلك إلى القرآن لما كان فيهم من الطغيان والكفر لما كان ما أنزل إليهم بالكفر الذي كان فيهم ، وهو كقوله تعالى ( إنهن أضللن كثيرا من الناس ) ( إبراهيم 36 ) ( إنهن ) لا يضللن أحدا في الحقيقة ، ولكن لما صاروا بهن ضُلاّلاً أضيف الإضلال{[6883]} إليهن كقوله تعالى ( وغرتهم الحياة الدنيا ) ( الأنعام 7 ) والحياة الدنيا لا تغر أحدا ، ولكن لما لو كانت لها حواس لكان ما بَدَتْ من الزينة لغرّت .

وقوله تعالى : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) اختلفوا فيه :

قال بعضهم : ( وألقينا بينهم ) بين اليهود والنصارى ، أي لا يحب اليهودي نصرانيا ولا النصراني يهوديا .

وقال آخرون : ( بينهم ) أي بين اليهود ؛ لأن اليهود على مذاهب مختلفة وأهواء مشتتة ؛ منهم يقول ( عزير ابن الله ) ( التوبة 30 ) ، ومنهم من يذهب مذهب التشبيه ، هم على أهواء مختلفة ؛ فبينهم عداوة وبغضاء على ما ذكر الاختلاف الواقع بينهم ، ثم إن معنى ما أضاف من إلقاء العداوة بينهم إلى نفسه لا يخلو : إما أن يكون له في نفس العداوة فعله ، وإما{[6884]} أن يكون في سبب العداوة .

ولا يجوز أن يكون له في فعل العداوة صُنْع لأنه فِعْلُهم ، ولا في سبب العداوة أيضا ؛ لأن سببها{[6885]} الاختلاف ، والاختلاف فِعلُهم أيضا . فإذا بطل أن يكون له في واحد من هذين صُنعٌ دل أن له ذلك من الوجه الآخر ، وهو أن خلق فعل العداوة وسبب العداوة منه ، وبالله التوفيق والعصمة .

فإن قيل : ذكر ههنا أنه تعالى ألقى بينهم العداوة ، وذكر في آية أخرى أن بعضهم أولياء بعض بقوله تعالى : ( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ) ( الآية 51 ) ، كيف يجمع بينهما ؟ قيل : ( أولياء بعضهم أولياء بعض ) في أصل الدين ، وهو الكفر ، وبينهم عداوة لاختلاف الأهواء والمذاهب ، والله أعلم .

وفي الآية دلالة الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر أنه ألقى بينهم العداوة . ولو كانوا على مذهب واحد ولم يكن بينهم اختلاف وعداوة لكان ذلك عليه أشد ، وفي المقام بينهم أصعب . لكن مَنَّ عليه بالاختلاف فيما بينهم لما جعل الاختلاف والتنازع سبب الفشل كقوله تعالى ( ولا تنازعوا فتفشلوا ) الآية ( الأنفال 46 ) .

وقوله تعالى : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) يحتمل وجهين :

أحدهما{[6886]} : كلما أرادوا مكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا أمرهم على قتله أطلع نبيه عليه السلام على ذلك حتى لم يقدروا على مكروه .

والثاني : كلما انتصبوا للحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه ، فرّق الله شملهم ، وجعلهم بحيث لا يجتمعون على ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( ويسعون في الأرض فسادا ) يحتمل وجهين أيضا :

أحدهما{[6887]} : السعي بالفساد على حقيقة المشي على الأقدام ، وهو ما كانوا يسعون في نصب الحرب مع المؤمنين والاتصال بغيرهم من الكفرة والاستعانة بهم ، فذلك هو السعي في الأرض بالفساد .

والثاني : ما كتموا من بعث{[6888]} الرسول وصفته ، وحرفوا ما في كتبهم من أعلام نبوته وآيات رسالته ، ودعوا الناس إلى غير ما نزل فيه ، وذلك سعي في الأرض بالفساد ، وبالله التوفيق .

وقوله تعالى ( والله لا يحب المفسدين ) لأنه لا يحب الفساد ولا يرضى به .


[6876]:) ساقطة من الأصل وم.
[6877]:) في الاصل وم: نفسه.
[6878]:) في الأصل م: يؤمنوا.
[6879]:) في الأصل وم: تعته.
[6880]:) في الأصل وم: التي كانت.
[6881]:) من م، في الأصل: الوجوه.
[6882]:) ساقطة من م.
[6883]:) ساقطة من الأصل وم.
[6884]:) في الأصل وم: أو.
[6885]:) في الأصل وم: سببه.
[6886]:) في الأصل وم: يحتمل.
[6887]:) في الأصل وم: يحتمل.
[6888]:) في الأصل وم: نعت.