قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } . للحي لكي تعتبروا وتستدلوا . وقيل لكي تنتفعوا .
قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } . قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف : أي ارتفع إلى السماء . وقال ابن كيسان و الفراء وجماعة من النحويين : أي أقبل على خلق السماء . وقيل : قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء .
قوله تعالى : { فسواهن سبع سماوات } . وخلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع .
قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون وهو وهي بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام ، زاد الكسائي و قالون : ثم هو و قالون أن يمل هو .
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } . أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .
ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } .
استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .
والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : { فَسَوَّاهُنَّ } ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع . فمعنى { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة المسلابسة والمباشرة .
وجملة { ثُمَّ استوى } معطوفة على جملة { خَلَقَ لَكُمْ } ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .
وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } وجملة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .
تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع . أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا . وقوله : «هو » مكنى من اسم الله جل ذكره ، عائد على اسمه في قوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ . ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه : إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود . و«ما » بمعنى «الذي » . فمعنى الكلام إذا : كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم ، فجعلكم بشرا أحياء ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك ، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم . و«كيف » بمعنى التعجب والتوبيخ لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويحكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : فأين تذهبون . وحل قوله : وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ محلّ الحال ، وفيه إضمار «قد » ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها . وذلك أن «فعل » إذا حلت محلّ الحال كان معلوما أنها مقتضية «قد » ، كما قال جل ثناؤه : أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بمعنى : قد حصرت صدورهم . وكما تقول للرجل : أصبحت كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك .
وبنحو الذي قلنا في قوله : هوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا كان قتادة يقول :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا نعم والله سخر لكم ما في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُم اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ .
قال أبو جعفر : اختلف في تأويل قوله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني واستوى إليّ يشاتمني ، بمعنى : أقبل عليّ وإليّ يشاتمني . واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :
أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَى سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضّجُوعِ
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى أقبلن . وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : «واستوين من الضجوع » عندي : استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه .
وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام ، إنما يريد تحوّل فعله .
وقال بعضهم : قوله ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ يعني به : استوت ، كما قال الشاعر :
أقُولُ لَهُ لَمّا اسْتَوَى في تُرَابِهِ على أيّ دِينٍ قَتّلَ الناسَ مُصْعَبُ
وقال بعضهم : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ : عمد إليها . وقال : بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه .
وقال بعضهم : الاستواء : هو العلوّ ، والعلوّ : هو الارتفاع .
حدثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ يقول : ارتفع إلى السماء .
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء ، فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها : هو خالقها ومنشئها .
وقال بعضهم : بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء .
قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاء شباب الرجل وقوّته ، فيقال إذا صار كذلك : قد استوى الرجل ، ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمره : إذا استقام له بعد أود . ومنه قول الطرماح بن حكيم :
طالَ على رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْ *** وعَفا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ
ومنها الإقبال على الشيء بالفعل ، كما يقال : استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه . ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم : استوى فلان على المملكة ، بمعنى احتوى عليها وحازها . ومنها العلوّ والارتفاع ، كقول القائل : استوى فلان على سريره ، يعني به علوّه عليه .
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوّاهُنْ علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات .
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها ، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر ، ثم لم ينج مما هرب منه . فيقال له : زعمت أن تأويل قوله : اسْتَوَى أقْبَلَ ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال . ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله ، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفا ، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى .
قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل : أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟ قيل : بعده ، وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات ، كما قال جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا ، وقبل أن يسوّيها سبع سموات .
وقال بعضهم : إنما قال استوى إلى السماء ولا سماء ، كقول الرجل لاَخر : «اعمل هذا الثوب » وإنما معه غزلٌ . وأما قوله فَسَوّاهُنّ فإنه يعني هيأهنّ وخلقهنّ ودبرهنّ وقوّمهنّ ، والتسوية في كلام العرب : التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوّى فلان لفلان هذا الأمر : إذا قوّمه وأصلحه ووطأه له . فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهن على إرادته ، وتفتيقهن بعد ارتاقهن كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول : سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم .
وقال جل ذكره : فَسَوّاهُنّ فأخرج مكنيّهن مخرج مكنى الجمع . وقد قال قبل : ثم استوى إلى السماء فأخرجها على تقدير الواحد . وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكنيّ الجمع . لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر ، ونخلة ونخل وما أشبه ذلك ولذلك أُنّثَتْ مرة ، فقيل : هذه سماء ، وذُكّرتْ أخرى فقيل : السماء منفطر به كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحدة غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك . وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة ، غير أنها تدلّ على السموات ، فقيل : فَسَوّاهُنّ يراد بذلك التي ذكرت ، وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تذكر معها . قال : وإنما تذكّر إذا ذكّرت وهي مؤنثة ، فيقال : السماء منفطر به كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر :
فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها *** ولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
فإمّا تَرَيْ لِمّتِي بُدّلَت *** ْفإنّ الحَوَادِثَ أزْرَى بِهَا
وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء ، وأرضا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدة إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعا ، كما يقال : ثوب أخلاق وأسمال ، وبرمة أعشار للمتكسرة ، وبرمة أكسار وأجبار ، وأخلاق : أي أن نواحيه أخلاق .
فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت : إن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سموات ، ثم سوّاها سبعا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جماع ؟ قيل : إنهنّ كنّ سبعا غير مستويات ، فلذلك قال جلّ ذكره : فسوّاهنّ سبعا : كما :
حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أوّل ما خلق الله تبارك وتعالى : النور والظلمة ، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ، ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلم من دخان الماء حتى استقللن ولم يحبكهن ، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم ، ثم دحى الأرض ، وأرساها بالجبال ، وقدّر فيها الأقوات ، وبثّ فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدّر فيها من أقواتها في أربعة أيام . ثم استوى إلى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل خلقهنّ في يومين . ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته ، ثم قال للسموات والأرض : ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها ، قَالتَا : أتَيْنا طائِعِينَ .
فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء بعد خلقه الأرض وما فيها وهنّ سبع من دخان ، فسوّاهنّ كما وصف . وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بيانا عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعا من دخان قبل استواء ربنا إليها بتسويتها من غيره ، وأحسن شرحا لما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التي قال الله فيها : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ بمعنى الجمع على ما وصفنا ، وأنه إنما قال جل ثناؤه : فسوّاهنّ إذ كانت السماء بمعنى الجمع على ما بينا .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله : فسَوّاهُنّ إذ كن قد خلقن سبعا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذكر خلقهن بعد ذكر خلق الأرض ، ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك ؟ قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونزيد ذلك توكيدا بما انضمّ إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم .
فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُم اسْتَوَى إلى السماء فَسَواهُن سَبْعَ سَمَواتٍ قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماءً ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : ن والقَلَم والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض . فتحرّك الحوت فاضطرب ، فتزلزت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله : وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ أَلارْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا ذَلِكَ رَبّ العَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيها يقول : أنبت شجرها وَقَدّرَ فِيها أقْواتها يقول أقواتها لأهلها في أرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواء للسّائِلِينَ يقول : قل لمن يسألك هكذا الأمر ثمّ اسْتَوى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوْحَى في كُل سماءٍ أمْرَها قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البَرَدِ وما لا يعلم . ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش ، فذلك حين يقول : خلق السموات والأرض في ستة أيام يقول : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما .
وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : هُوَ الّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام .
وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : وَالأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغا في دنياكم ، ومتاعا إلى موافاة آجالكم ، ودليلاً لكم على وحدانية ربكم . ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان ، فسوّاهن وحبكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدّر في كل واحدة منهنّ ما قدّر من خلقه .
القول في تأويل قوله تعالى : وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ .
يعني بقوله جلّ جلاله : وهو نفسه ، وبقوله : بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ : أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسّوى السموات السبع بما فيهن ، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن ، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب ، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمَنّا بِاللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ وهم على التكذيب به منطوون . وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون ، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوّته المواثيق ، وهم به عالمون بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم ، وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم . وقوله : عَلِيمٌ بمعنى عالم . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمل في علمه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمل في علمه .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )
و { خلق } معناه اخترع وأوجد بعد العدم ، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئاً ، ومنه قول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ] [ الكامل ]
ولأنت تفري ما خلقت وبعض . . . القوم يخلق ثم لا يفري( {[393]} )
ومنه قول الآخر : [ مجزوء الكامل ]
من كان يخلق ما يقو . . . ل فحيلتي فيه قليله( {[394]} )
و { لكم } : معناه للاعتبار ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء ، والإماتة ، والخلق ، والاستواء إلى السماء وتسويتها( {[395]} ) .
وقال قوم : بل معنى { لكم } إباحة الأشياء وتمليكها ، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية( {[396]} ) ، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر ، والقائلون بالوقف ، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس ، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة ، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به .
ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل .
وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : «لم يخل العقل قط من السمع( {[397]} ) ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب » . قال : «فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف » ، و { جميعاً } نصب عل الحال .
وقوله تعالى : { ثم استوى } ، { ثم } هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه ، و { استوى } : قال قوم : «معناه علا دون تكييف ولا تحديد » ، هذا اختيار الطبري ، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه .
وقال ابن كيسان : «معناه قصد إلى السماء » .
قال القاضي أبو محمد : أي بخلقه واختراعه .
وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق . ( {[398]} )
وحكى الطبري عن قوم : أن المعنى أقبل ، وضعفه( {[399]} ) .
وحكي عن قوم «المستوي » هو الدخان .
وهذا أيضاً يأباه رصف الكلام( {[400]} ) ، وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر( {[401]} ) الأخطل : [ الرجز ]
قد استوى بشر على العراقِ . . . من غير سيف ودم مهراقِ
وهذا إنما( {[402]} ) يجيء في قوله تعالى : { على العرش استوى }( {[403]} ) [ طه : 5 ] والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة( {[404]} ) وحلول الحوادث ، ويبقى استواء القدرة والسلطان .
{ فسواهن } قيل المعنى جعلهن سواء ، وقيل سوى سطوحها بالإملاس ، و { سبع } نصب على البدل من الضمير ، أو على المفعول : ب «سوّى » ، بتقدير حذف الجار من الضمير ، كأنه قال فسوّى منهن سبع ، وقيل نصب على الحال ، وقال سواهن إما على أن السماء جمع ، وإما على أنه مفرد اسم جنس ، فهو دال على الجمع .
وقوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر ، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء ، وذلك صحيح( {[405]} ) ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا تتفق معاني الآيات : هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع. أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره:"هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا".
وقوله: «هو» مكنى من اسم الله جل ذكره، عائد على اسمه في قوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ". ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و«ما» بمعنى «الذي».
فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم بشرا أحياء، ثم يميتكم، ثم هو محييكم بعد ذلك، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
عن قتادة قوله: "هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا": نعم والله سخر لكم ما في الأرض...
اختلف في تأويل قوله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ..."؛
فقال بعضهم: معنى "استوى إلى السماء": أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني، واستوى إليّ يشاتمني، بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني.
وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام، إنما يريد تحوّل فعله.
وقال بعضهم: قوله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ "يعني به: استوت.
وقال بعضهم: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ": عمد إليها. وقال: بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه.
وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ، والعلوّ: هو الارتفاع؛ عن الربيع بن أنس: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ" يقول: ارتفع إلى السماء.
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها: هو خالقها ومنشئها.
وقال بعضهم: بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء...
الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
منها انتهاء شباب الرجل وقوّته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل.
ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود.
ومنها الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه.
ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها.
ومنها العلوّ والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوّه عليه.
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوّاهُنْ": علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات... والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ" الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: "اسْتَوَى": أقْبَلَ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفا، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟ قيل: بعده وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات، كما قال جل ثناؤه: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها" والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا، وقبل أن يسوّيها سبع سموات...
والتسوية في كلام العرب: التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوّى فلان لفلان هذا الأمر: إذا قوّمه وأصلحه ووطأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سماواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهن على إرادته، وتفتيقهن بعد إرتاقهن...
عن الربيع بن أنس: "فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ" يقول: سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم.
وقال جل ذكره: "فَسَوّاهُنّ" فأخرج مكنيّهن مخرج مكنى الجمع. وقد قال قبل: "ثم استوى إلى السماء" فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكنيّ الجمع لأن السماء جمع واحدها سماوة... فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغا في دنياكم، ومتاعا إلى موافاة آجالكم، ودليلاً لكم على وحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسوّاهن وحبكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدّر في كل واحدة منهنّ ما قدّر من خلقه...
"وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ". يعني بقوله جلّ جلاله: "وهو": نفسه، وبقوله: "بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ": أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض جميعا، وسّوى السموات السبع بما فيهن، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: "آمَنّا بِاللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ" وهم على التكذيب به منطوون. وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوّته المواثيق، وهم به عالمون، بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم، وأمور غيركم، إني بكل شيء عليم.
وقوله: "عَلِيمٌ" بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمل في علمه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقد استدل بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ} على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها. فإن قلت: هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية: جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية...
والاستواء: الاعتدال والاستقامة.
ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنّ {وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {خلق} معناه اخترع وأوجد بعد العدم.
و {لكم}: معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها (87).
وقال قوم: بل معنى {لكم} إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية (88)، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الصحيح في معنى قوله تعالى:"خلق لكم ما في الأرض" الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة.
فإن قيل: إن معنى "لكم "الانتفاع، أي: لتنفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا.
فإن قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات. قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار...
قال أرباب المعاني في قوله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
[و] روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بذلك أمرت).
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله؛ لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13]. فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه؛ ليكون له عبد ا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" [سبأ: 39] وقال: "فإن ربي غني كريم" [النمل: 40]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك).
وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك) قلت: نعم، قال: (مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك).
قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم" أي بما خلق وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، وقد قال: "ألا يعلم من خلق" [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته... وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: "أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" [النساء: 166]، وقال: "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" [هود: 14]، وقال: "فلنقصن عليهم بعلم" [الأعراف: 7]، وقال: "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" [فاطر: 11]، وقال: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" [الأنعام: 59] الآية.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَسَوَّاهُنَّ} أي أتمهنّ وقوَّمهن وخلقهنّ ابتداءً مصونةً عن العِوَج والفُطورِ...
وتأخيرُ ذكرِ هذا الصُنع البديعِ عن ذكر خلقِ ما في الأرض مع كونه أقوى منه في الدلالة على كمال القدرةِ القاهرةِ كما نُبه عليه لما أن المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ، وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلك أظهر، وإن كان في إبداع العلوياتِ أيضاً من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ ما لا يُحصى. هذا ما قالوا، وسيأتي في حم السجدة مزيدُ تحقيقٍ وتفصيلٍ بإذن الله تعالى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} فالكلام على اتصاله وترتيبه وانتظام جواهره في سلك أسلوبه، فليس في قوله {كيف تكفرون} الخ انتقال لإثبات البعث كما قال بعض المفسرين، غفلة عن هذا الاتصال المتين، ولعمري إن وجوه الاتصال بين الآيات، وما فيها من دقائق المناسبات، لهي ضرب من ضروب البلاغة، وفن من فنون الإعجاز، إذا أمكن للبشر الإشراف عليه، فلا يمكنهم البلوغ إليه، والكلام في البعث في القرآن كثيرا جدا فلا حاجة إلى الإسراع إليه هنا.
يصور لنا قوله تعالى {خلق لكم} قدرته الكاملة، ونعمه الشاملة، وأي قدرة أكبر من قدرة الخالق؟ وأي نعمة أكمل من جعل كل ما في الأرض مهيئا لنا، ومعدا لمنافعنا؟ وللانتفاع بالأرض طريقان (أحدهما) الانتفاع بأعينها في الحياة الجسدية (وثانيهما) النظر والاعتبار بها في الحياة العقلية، والأرض هي ما في الجهة السفلى، أي ما تحت أرجلنا، كما أن المراد بالسماء كل ما في الجهة العليا أي فوق رؤوسنا وإننا ننتفع بكل ما في الأرض برها وبحرها من حيوان ونبات وجماد، ومالا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته. والتعبير بقي يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنص الصريح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية. ويتحدثون عن الاستواء والتسوية.. وينسون أن "قبل وبعد "اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود.. ولا يزيدان.. وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإسلامية الناصعة.. وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام!!... فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني، وعلى دوره العظيم في الأرض، وعلى قيمته في ميزان الله، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي..
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)..
إن كلمة (لكم) هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق. إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم. خلقه ليكون مستخلفا في الأرض، مالكا لما فيها، فاعلا مؤثرا فيها. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع. ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم. وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني. فكرامة الإنسان أولا، واستعلاء الإنسان أولا، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة.
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا -وهو يستنكر كفرهم به- ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا، ولكنها -إلى ذلك- سيادتهم على ما في الأرض جميعا، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا. هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم.
(ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات)..
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة، والقصد بإرادة الخلق والتكوين. كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها. اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون، الذي سخر لهم الأرض بما فيها، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة.
بما أنه الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء. وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير. حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل.
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة.. وكلها تركيز على الإيمان، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين..