قوله تعالى : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يقول احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره . وقال مجاهد وقتادة : لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضاً : يا محمد ، يا عبد الله ، ولكن فخموه وشرفوه ، فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله ، في لين وتواضع . { قد يعلم الله الذين يتسللون } أي : يخرجون { منكم لواذاً } أي : يستر بعضهم بعضاً ويروغ في خفية ، فيذهب ، واللواذ : مصدر لاوذ يلاوذ ملاوذة ، ولواذاً . قيل : كان هذا في حفر الخندق ، فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لواذاً ) أي : يلوذ بعضهم ببعض ، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار . ومعنى قوله : قد يعلم الله التهديد بالمجازاة { فيحذر الذين يخالفون عن أمره } أي : أمره ، " وعن " صلة . وقيل : معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه . { أن تصيبهم فتنة } أي : لئلا تصيبهم فتنة ، قال مجاهد : بلاء في الدنيا ، { أو يصيبهم عذاب أليم } وجيع في الآخرة . وقيل : ( عذاب أليم ) عاجل في الدنيا .
ثم أكد الله - تعالى - وجوب التوقير والتعظيم لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً . . } .
ولأهل العلم فى تفسير هذه الآية أقوال من أهمها : أن المصدر هنا وهو لفظ " دعاء " مضاف إلى مفعوله ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه مدعو ، فيكون المعنى :
لا تجعلوا - أيها المؤمنون - دعاءكم الرسول إذا دعوتموه ، ونداءكم له إذا ما ناديتموه ، كدعاء أو نداء بعضكم لبعض ، وإنما عليكم إذا ما ناديتموه أن تنادوه بقولكم ، يا نبى الله ، أو يا رسول الله ، ولا يليق بكم أن تنادوه باسمه مجردا ، بأن تقولوا يا محمد .
كما أن من الواجب عليكم أن تخفضوا أصواتكم عند ندائه توقيرا واحتراما له صلى الله عليه وسلم والمتتبع للقرآن الكريم ، يرى أن الله - تعالى - لم يناد رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم باسمه مجردا ، وإنما ناداه بقوله : يأيها المدثر ، يأيها الرسول ، يأيها النبى . . . .
وإذا كان اسمه صلى الله عليه وسلم قد ورد فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع ، فإن وروده لم يكن فى معرض النداء ، وإنما كان فى غيره كما فى قوله - تعالى - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ . . } فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن أن ينادوا أو يخاطبوا النبى صلى الله عليه وسلم باسمه مجردا ، كما يخاطب بعضهم بعضا .
ومن العلماء من يرى أن المصدر هنا مضاف إلى فاعله ، فيكون المعنى : لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، بل يجب عليكم متى دعاكم لأمر أن تلبوا أمره بدون تقاعس أو تباطؤ .
وعلى كلا التفسيرين فالآية الكريمة تدل على وجوب توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه . وشبيه بها قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ثم حذر - سبحانه - المنافقين من سوء عاقبة أفعالهم فقال : { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وقد هنا للتحقيق . ويتسللون من التسلل ، وهو الخروج فى خفاء مع تمهل وتلصص .
وقوله { لِوَاذاً } مصدر فى موضع الحال أى : ملاوذين . والملاوذة معناها : الاستتار بشىء مخافة من يراك ، أو هى الروغان من شىء إلى شىء على سبيل الخفاء .
أى : إن الله - تعالى - عليم بحال هؤلاء المنافقين الذين يخرجون من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فى خفاء واستتار : بحيث يخرجون من الجماعة قليلا قليلا ، يستتر بعضهم ببعض حتى يخرجوا جميعا .
قالوا : وكان المنافقون تارة يخرجون إذا ارتقى الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر . ينظرون يمينا وشمالا . ثم يخرجون واحدا واحدا . وتارة يخرجون من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وتارة يفرون من الجهاد يعتذرون بالمعاذير الباطلة .
وعلى أية حال فالآية الكريمة تصور خبث نفوسهم ، والتواء طباعهم ، وجبن قلوبهم ، أبلغ تصوير ، حيث ترسم أحوالهم وهم يخرجون فى خفاء متسللين ، حتى لا يراهم المسلمون .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَلْيَحْذَرِ . . . } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والضمير فى قوله : { عَنْ أَمْرِهِ } يعود إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى الله - تعالى - والمعنى واحد ، لأن الرسول مبلغ عن الله - تعالى - .
والمخالفة معناها : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى حاله أو فعله .
والمعنى : فليحذر هؤلاء المنافقون الذين يخالفون أمر النبى صلى الله عليه وسلم ويصدون الناس عن دعوته . ويتباعدون عن هديه ، فليحذروا من أن تصيبهم فتنة ، أى : بلاء وكرب يتربت عليه افتضاح أمرهم ، وانكشاف سرهم ، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يستأصلهم عن آخرهم ، ولعذاب الآخرة اشد وأبقى .
قال القرطبى : وبهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب ، ووجهها أن الله - تعالى - قد حذر من مخالفة أمره ، وتوعد بالعقاب عليها بقوله : { تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فتحرم مخالفته ، ويجب امتثال أمره " .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تَجْعَلُوا أيها المؤمنون دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : نَهَى الله بهذه الآية المؤمنين أن يتعرّضوا لدعاء الرسول عليهم ، وقال لهم : اتقوا دعاءه عليكم ، بأن تفعلوا ما يسخطه فيدعو لذلك عليكم فتهلكوا ، فلا تجعلوا دعاءه كدعاء غيره من الناس ، فإن دعاءه موجبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا دعوة الرسول عليكم موجبة ، فاحذروها .
وقال آخرون : بل ذلك نهيٌ من الله أن يَدْعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلَظ وجفَاء ، وأمر لهم أن يَدْعوه بلين وتواضع . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا قال : أمرهم أن يَدْعوا يا رسول الله ، في لين وتواضع ، ولا يقولوا يا محمد ، في تجهّم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا قال : أمرهم أن يَدْعوه : يا رسول الله ، في لين وتواضع .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر ، عن قَتادة ، في قوله : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاء بَعْضِكُمْ بَعْضا قال : أمرهم أن يفخّموه ويشرّفوه .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس ، وذلك أن الذي قَبْل قوله : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا نهيٌ من الله المؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه ، والذي بعده وعيد للمُنْصرفين بغير إذنه عنه ، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سُخْطة أن يضطّره إلى الدعاء عليهم أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء .
وقوله : قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المنصرفون عن نبيكم بغير إذنه ، تسترا وخِفية منه ، وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يعلم ذلك ولا يخَفي عليه ، فليتّق من يفعل ذلك منكم الذين يخالفون أمر الله في الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ، أن تصيبهم فتنة من الله أو يصيبهم عذاب أليم ، فيطبع على قلوبهم ، فيكفروا بالله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، في قول الله : قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا قال : كانوا يستتر بعضهم ببعض ، فيقومون ، فقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ، قال : يطَبع على قلبه ، فلا يأمن أن يظهر الكفر بلسانه فتُضرب عُنُقه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا قال : خلافا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا قال : هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : اللّواذ : يلوذ عنه ويروغ ويذهب بغير إذن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ الذين يصنعون هذا ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم . الفتنة ها هنا . الكفر ، واللّواذ : مصدر لاوذت بفلان مُلاوذة ولِواذا ، ولذلك ظهرت الواو ، ولو كان مصدرا للُذت لقيل : لِياذا ، كما يقال : قُمت قياما ، وإذا قيل : قاومتك ، قيل : قواما طويلاً . واللّواذ : هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض ، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا ، كما قال الضحاك .
وقوله : أوْ يُصِيبُهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع ، على صنيعهم ذلك وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ وأدخلت «عن » لأن معنى الكلام : فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويُدبِرون عنه معرضين . )
{ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن ، فإن المبادرة إلى إجابته عليه الصلاة والسلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة . وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات ، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت ، أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب ، أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب . { قد يعلم اله الذين يتسللون منكم } ينسلون قليلا قليلا من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل . { لواذا } ملاوذة بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح . { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتا خلاف سمته ، و { عن } لتضمنه معنى الإعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه ، وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى ، فإن الأمر له والضمير لله تعالى فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر . { أن تصيبهم فتنة } محنة في الدنيا . { أو يصيبهم عذاب أليم } في الآخرة واستدل به على أن لأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين ، فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب .