فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63)

{ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً } وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها : أي لا تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة ، أو الرجوع بغير استئذان ، أو رفع الصوت . وقال سعيد بن جبير ومجاهد المعنى : قولوا : يا رسول الله في رفق ولين ، ولا تقولوا يا محمد بتجهم .

وقال قتادة : أمرهم أن يشرّفوه ويفخموه . وقيل المعنى : لا تتعرّضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه ، فإن دعوته موجبة { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } التسلل : الخروج في خفية ، يقال : تسلل فلان من بين أصحابه : إذا خرج من بينهم ، واللواذ من الملاوذة ، وهو : أن تستتر بشيء مخافة من يراك ، وأصله أن يلوذ هذا بذاك ، وذاك بهذا ، واللوذ ما يطيف بالجبل ، وقيل : اللواذ : الزوغان من شيء إلى شيء في خفية . وانتصاب لواذاً على الحال : أي متلاوذين يلوذ بعضهم ببعض ، وينضمّ إليه ، وقيل : هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذاً . وقرأ زيد بن قطيب : { لواذا }ً بفتح اللام . وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين ، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين يضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة ، والخطبة ، فكانوا يفرّون عن الحضور ، ويتسللون في خفية ، ويستتر بعضهم ببعض ، وينضم إليه . وقيل : اللواذ : الفرار من الجهاد ، وبه قال الحسن ، ومنه قول حسان :

وقريش تلوذ منكم لواذا *** لم تحافظ وخفّ منها الحلوم

{ فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها : أي يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك العمل بمقتضاه ، وعديّ فعل المخالفة بعن مع كونه متعدّياً بنفسه لتضمينه معنى الإعراض أو الصدّ ، وقيل : الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة ، و{ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } مفعول يحذر ، وفاعله الموصول . والمعنى : فليحذر المخالفون عن أمر الله ، أو أمر رسوله ، أو أمرهما جميعاً إصابة فتنة لهم { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرة ؛ كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا ، وكلمة أو لمنع الخلوّ . قال القرطبي : احتجّ الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية ، ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره ، وتوعد بالعقاب عليها بقوله : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } الآية ، فيجب امتثال أمره ، وتحرم مخالفته ، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن ، وقيل هي القتل ، وقيل الزلازل ، وقيل تسلط سلطان جائر عليهم ، وقيل : الطبع على قلوبهم . قال أبو عبيدة والأخفش : عن في هذا الموضع زائدة . وقال الخليل ، وسيبويه : ليست بزائدة ، بل هي بمعنى بعد ، كقوله : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } [ الكهف : 50 ] أي بعد أمر ربه ، والأولى ما ذكرناه من التضمين .

/خ64