البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63)

اللواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية .

{ لا تجعلوا } خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة ، أمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يدعى به نحو : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول : يا محمد وفي قوله { كدعاء بعضكم بعضاً } إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره .

وكانوا يقولون : يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك .

وقيل : نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم ، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها .

وقال الزمخشري : إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى .

وهو قريب مما قبله .

وقال أيضاً : ويحتمل { لا تجعلوا } دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم ، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده ، وإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة انتهى .

وقال ابن عباس : إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه .

قال ابن عطية : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى .

وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله { بينكم } ظرفاً قراءة الجمهور .

قال صاحب اللوامح : وهو النبيّ عليه السلام على البدل من { الرسول } فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة ، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم ، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور ، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في التعريف .

ثم قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى .

وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان كذلك فقد تساويا في التعريف .

ومعنى { يتسللون } ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفية ، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتاراً من الرسول .

وقال الحسن { لواذاً } فراراً من الجهاد .

وقيل : في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة .

وقال مجاهد لوذاً خلافاً .

وقال أيضاً { يتسللون } من الصف في القتال وقيل : { يتسللون } على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه وعلى ذكره .

وانتصب { لواذاً } على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين ، و { لواذاً } مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً .

وقرأ يزيد بن قطيب { لواذاً } بفتح اللام ، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافاً .

واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول : خالفت أمر زيد وبالي تقول : خالفت إلى كذا فقوله { عن أمره } ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعداه بعن .

وقال ابن عطية : معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح و { عن } هي لما عدا الشيء .

وقال أبو عبيدة والأخفش { عن } زائدة أي { أمره } والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور ، وأن الضمير في { أمره } عائد على الله .

وقيل على الرسول .

وقرىء يخلفّون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره ، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضاً أو بلاء قاله مجاهد ، أو كفر قاله السدي ومقاتل ، أو إسباغ النعم استدراجاً قاله الجراح ، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد ، أو طبع على القلوب قاله بعضهم .

وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا .

أو { عذاب أليم } .

قيل : عذاب الآخرة .

وقيل : هو القتل في الدنيا .