محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63)

وقوله تعالى :

{ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا } أي إذ احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر ، فدعاكم ، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، قاله الزمخشري .

وكذا قال ابن الأثير في ( المثل السائر ) أي إذا حضرتم في مجلسه ، فلا يكن حضوركم كحضوركم في مجالسكم . أي لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه ، والتزموا معه الأدب . وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر . منهم ابن أبي الحديد حيث قال في ( الفلك الدائر ) : إن المعنى المتقدم ، وإن دلت عليه قرينة متقدمة ، كما قال ابن الأثير – ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا . ولعله الأصح . وهي أن يراد بالدعاء الأمر . يقال : دعا فلان قومه إلى كذا ، أي أمرهم به وندبهم إليه . وقال سبحانه {[5872]}{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } أي ندبكم . وقال سبحانه {[5873]} : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } أي أمرتهم وندبتهم ، والقرينة المتأخرة قوله {[5874]} : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } . انتهى . وكذا قال المهايمي : أي لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى . لأنه واجب الطاعة . لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعو .

{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا } أي ينسلون قليلا قليلا ، و( اللواذ ) الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا . يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة . واستتار بعضهم ببعض .

هذا ، وقيل : معنى الآية : لا تجعلوا نداءه وتسميته ، كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة . ولكن بلقبه المعظم . مثل : يا نبي الله ! ويا رسول الله ! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت .

وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق . وتكلف بعضهم لربطه بما قبله ، لأن الاستئذان يكون بقولهم : يا رسول الله ! إنا نستأذنك . ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه . والأول أظهر وأولى كما في ( العناية ) .

نعم ، في التنزيل عدة آيات ، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير ، وجعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه . كآية {[5875]} : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } الآية و{[5876]} : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } إلى قوله {[5877]} : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي يعرضون عنه ولا يأتون به . فضمن ( المخالفة ) معنى الإعراض والصد . أو عن صلته . وقيل : إذا تعدى ( خالف ) ب ( عن ) ضمن الخروج . وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله ، كما قاله الراغب { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي محنة في الدنيا { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرة . أو فيهما .

تنبيه :

استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته ، وأصول دينه . فما وافق قبل ، وما خالف رد على قائله ، وفاعله ، كائنا من كان . كما ثبت في ( الصحيحين ) {[5878]} عنه صلوات الله عليه وسلامه ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) واستدل بالآية أيضا أن الأمر للوجوب . فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين . قيل : هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله : { على أمر جامع } وقد جوزا فيه ، مع إرادتهما معا . وتفصيل البحث في ( الرازي ) .


[5872]:(8 الأنفال 24).
[5873]:(71 نوح 7).
[5874]:(24 النور 63).
[5875]:(2 البقرة 104).
[5876]:(49 الحجرات 2).
[5877]:(49 الحجرات 4).
[5878]:أخرجه البخاري في: 96 – لاكتاب الاعتنصام، 20 باب – إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ (في ترجمة الباب).