الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} يقول الله عز وجل: لا تدعوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه يا محمد، ويا ابن عبد الله، إذا كلمتموه كما يدعو بعضكم بعضا باسمه يا فلان، ويا ابن فلان، ولكن عظموه وشرفوه صلى الله عليه وسلم، وقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله صلى الله عليه وسلم، نظيرها في الحجرات.

{قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا} وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم يوم الجمعة قول النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه إذا كانوا معه على أمر جامع، فيقوم المنافق وينسل ويلوذ بالرجال وبالسارية، لئلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج من المسجد، ويدعوه باسمه يا محمد، ويا ابن عبد الله، فنزلت هؤلاء الآيات.

{قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا} فخوفهم عقوبته، فقال سبحانه: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} يعني: عن أمر الله عز وجل {أن تصيبهم فتنة} يعني: الكفر {أو يصيبهم عذاب أليم}، يعني: وجيعا،

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قال مالك عن زيد بن أسلم في قوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} قال: أمرهم الله أن يشرفوه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"لا تَجْعَلُوا" أيها المؤمنون "دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا".

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛

فقال بعضهم: نَهَى الله بهذه الآية المؤمنين أن يتعرّضوا لدعاء الرسول عليهم، وقال لهم: اتقوا دعاءه عليكم، بأن تفعلوا ما يسخطه فيدعو لذلك عليكم فتهلكوا، فلا تجعلوا دعاءه كدعاء غيره من الناس، فإن دعاءه مَوْجَبَة... عن ابن عباس، قوله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا دعوة الرسول عليكم موجبة، فاحذروها...

وقال آخرون: بل ذلك نهيٌ من الله أن يَدْعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلَظ وجفَاء، وأمر لهم أن يَدْعوه بلين وتواضع... عن مجاهد: "كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا "قال: أمرهم أن يَدْعوا يا رسول الله، في لين وتواضع، ولا يقولوا يا محمد، في تجهّم... عن قَتادة، في قوله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاء بَعْضِكُمْ بَعْضا قال: أمرهم أن يفخّموه ويشرّفوه.

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس، وذلك أن الذي قَبْل قوله: "لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا" نهيٌ من الله المؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه، والذي بعده وعيد للمُنْصرفين بغير إذنه عنه، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه أن يضطّره إلى الدعاء عليهم أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء.

وقوله: "قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا" يقول تعالى ذكره: إنكم أيها المنصرفون عن نبيكم بغير إذنه، تسترا وخِفية منه، وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يعلم ذلك ولا يخَفي عليه، فليتّق من يفعل ذلك منكم الذين يخالفون أمر الله في الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، أن تصيبهم فتنة من الله أو يصيبهم عذاب أليم، فيطبع على قلوبهم، فيكفروا بالله...

"فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ" الذين يصنعون هذا، "أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم"، الفتنة ها هنا: الكفر... واللّواذ: هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا...

وقوله: "أوْ يُصِيبُهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ" يقول: أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع، على صنيعهم ذلك وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ"...: فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويُدبِرون عنه معرضين.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

"لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لا تجعلوا دعاء الرسول إياكم إلى ما يدعوكم إليه كدعاء بعضهم بعضا، مرة تجيبونه، ومرة لا تجيبونه، كما يجيب بعضكم بعضا إذا دعاه مرة، ولا يجيبه تارة، بل أجيبوا رسول الله في جميع ما يدعوكم إليه في كل حال تكونون.

والثاني: لا تجعلوا دعاءكم الرسول إذا دعوتموه كما يدعو بعضكم بعضا: يا فلان ويا فلان، ولكن ادعوه باسمه المخصوص به: يا رسول الله، ويا نبي الله، على ما أقررتم أنه مخصوص من بينكم، ليس كمثلكم. فعلى ذلك في الدعاء والإجابة اجعلوه مخصوصا تعظيما له وإجلالا خصوصية له وفضيلة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أي عَظِّموه في الخطاب، واحفظوا في خدمته الأدبَ، وعانِقوا طاعتَه على مراعاةِ الهيبة والتوقير.

{فَلْيَحْذِرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. سعادة الدارين في متابعةَ السنَّة، وشقاوة المنزلين في مخالفة السُّنَّة. ومِنْ أَيْسَرِ ما يُصيب مَنْ خَالَفَ سُنتَه حرمانُ الموافقة، وتَعَذُّرُ المتابعة بعده، وسقوط حشمة الدارين عن قلبه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلاّ بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي، أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضاً، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، ولا تقولوا: يا محمد، ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، مع التوقير [و] التعظيم والصوت المخفوض والتواضع. ويحتمل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم وكبيركم وفقيركم وغنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما ردّه، فإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة {يَتَسَلَّلُونَ} ينسلون قليلاً قليلاً. ونظير «تسلل»: «تدرّج وتدخل»: واللواذ: الملاوذة، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعني: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض. و {لِوَاذاً} حال، أي: ملاوذين، وقيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيأذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه... "فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ"، يقال: خالفه إلى الأمر، إذا ذهب إليه دونه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} [هود: 88] وخالفه عن الأمر: إذا صد عنه دونه. ومعنى {الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} الذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون، فحذف المفعول لأنّ الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه. الضمير في أمره لله سبحانه أو للرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: عن طاعته ودينه {فِتْنَةً} محنة في الدنيا {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فتنة قتل. وعن عطاء: زلازل وأهوال. وعن جعفر بن محمد: يسلط عليهم سلطان جائر.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

فأمرهم الله تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشرف أسمائه وذلك هو مقتضى التوقير والتعزير...

ثم أخبرهم تعالى أن المتسللين منهم {لواذاً} قد علمهم.

واللواذ: الروغان والمخالفة...

ثم أمرهم بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا عن أمره، وقوله {يخالفون عن أمره} معناه يقع خلافهم بعد أمره... والفتنة في هذا الموضع: الإخبار بالرزايا في الدنيا وبالعذاب الأثيم في الآخرة، ولا بد للمنافقين من أحد هذين ملكاً وخلفاً.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها، من شرف الرسول ما بهر العقول، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم، والمنصب الأتم، وعلم منه أن له صلى الله عليه وسلم في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره، صرح بذلك تفخيماً للشأن، وتعظيماً للمقام، ليتأدب من ناضل عن المنافق، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق، فقال منبهاً على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب {لا تجعلوا} أي ايها الذين آمنوا {دعاء الرسول} أي لكم الذي يوقعه {بينكم} ولو على سبيل العموم، في وجوب الامتثال {كدعاء بعضكم بعضاً} فإن أمره عظيم، ومخالفته استحلالاً كفر، ولا تجعلوا أيضاً دعاءكم إياه كدعاء بعضكم لبعض بمجرد الاسم، بل تأدبوا معه بالتفخيم والتبجيل والتعظيم كما سن الله بنحو: يا ايها النبي، ويا أيها الرسول، مع إظهار الأدب في هيئة القول والفعل بخفض الصوت والتواضع.

ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة، ويبطن المخالفة، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته، فقال معللاً مؤكداً محققاً معلماً بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان: {قد يعلم الله} أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه يعلم {الذين يتسللون} وعين أهل التوبيخ بقوله: {منكم} أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء {لواذاً} أي تسللاً مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض؛ يقال: لاذ بالشيء لوذاً ولواذاً وملاوذة: استتر وتحصن، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه، ولعله أدخل "قد "على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقاً، ويفتح لأهل الريب إلى الاحتمال طريقاً، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال؛ وسبب عن علمه قوله: {فليحذر} أي يوقع الحذر {الذين يخالفون} أي يوقعون مخالفته بالذهاب مجاوزين معرضين {عن أمره} أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى خلافه {أن تصيبهم فتنة} أي شيء يخالطهم في الدنيا فيحيل أمورهم إلى غير الحالة المحبوبة التي كانوا عليها {أو يصيبهم عذاب أليم*} في الآخرة، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب حتى يصرف عنه صارف، لترتيب العقاب على الإخلال به، لأن التحذير من العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [صلى الله عليه وسلم] عند الاستئذان، وفي كل الأحوال. فلا يدعى باسمه: يا محمد. أو كنيته: يا أبا القاسم. كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا. إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه: يا نبي الله. يا رسول الله:

(لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا)..

فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه. وهي لفتة ضرورية. فلا بد للمربي من وقار، ولا بد للقائد من هيبة. وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا؛ وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض.. يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير.

ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن، يلوذ بعضهم ببعض، ويتدارى بعضهم ببعض.. فعين الله عليهم، وإن كانت عين الرسول لا تراهم: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا).. وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس؛ ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة، وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس.

(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)..

وإنه لتحذير مرهوب، وتهديد رعيب.. فليحذر الذين يخالفون عن أمره، ويتبعون نهجا غير نهجه، ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة. ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس، وتختل فيها الموازين، وينتكث فيها النظام، فيختلط الحق بالباطل، والطيب بالخبيث، وتفسد أمور الجماعة وحياتها؛ فلا يأمن على نفسه أحد، ولا يقف عند حده أحد، ولا يتميز فيها خير من شر.. وهي فترة شقاء للجميع:

(أو يصيبهم عذاب أليم) في الدنيا أو في الآخرة. جزاء المخالفة عن أمر الله، ونهجه الذي ارتضاه للحياة. ويختم هذا التحذير، ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها، رقيب على عملها، عالم بما تنطوي عليه وتخفيه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما كان الاجتماع للرسول في الأمور يقع بعدَ دَعوته الناس للاجتماع وقد أمرهم الله أن لا ينصرفوا عن مجامع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لعذر بعد إذنه أنبأهم بهذه الآية وجوب استجابة دعوة الرسول إذا دعاهم. وقد تقدم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} في سورة الأنفال (24). والمعنى: لا تجعلوا دعوة الرسول إياكم للحضور لديه مخيَّرين في استجابتها كما تتخيرون في استجابة دعوة بعضكم بعضاً، فوجه الشبه المنفي بين الدعوتين هو الخيار في الإجابة. والغرض من هذه الجملة أن لا يتوهموا أن الواجب هو الثبات في مجامع الرسول إذا حضروها، وأنهم في حضورها إذا دُعوا إليها بالخيار، فالدعاء على هذا التأويل مصدر دعاه إذا ناداه أو أرسل إليه ليحضر.

وإضافة {دعاء} إلى {الرسول} من إضافة المصدر إلى فاعله. ويجوز أن تكون إضافة {دعاء} من إضافة المصدر إلى مفعوله والفاعل المقدر ضمير المخاطبين. والتقدير: لا تجعلوا دعاءكم الرسولَ، فالمعنى نهيهم.

ووقع الالتفات من الغيبة إلى خطاب المسلمين حثّاً على تلقي الجملة بنشاط فهممٍ، فالخطاب للمؤمنين الذين تحدث عنهم بقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] وقوله: {إن الذين يستأذنونك} [النور: 62] الخ. نُهوا عن أن يدْعوا الرسول عند مناداته كما يدعو بعضهم بعضاً في اللفظ أو في الهيئة. فأما في اللفظ فبأن لا يقولوا: يا محمد، أو يا ابن عبد الله، أو يا ابن عبد المطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبيء الله، أو بكنيته يا أبا القاسم. وأما في الهيئة فبأن لا يدعُوه من وراء الحجرات، وأن لا يُلحوا في دعائه إذا لم يخرج إليهم، كما جاء في سورة الحجرات. لأن ذلك كله من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا أدب للمسلمين وسدّ لأبواب الأذى عن المنافقين. وإذ كانت الآية تحتمل ألفاظُها هذا المعنى صح للمتدبر أن ينتزع هذا المعنى منها إذ يكفي أن يأخذ من لاح له معنى ما لاح له.

و {بينكم} ظرف إما لغو متعلق ب {تجعلوا}، أو مستقِرّ صفة ل {دعاء}، أي دعاءه في كلامكم. وفائدة ذكره على كلا الوجهين التعريض بالمنافقين الذين تمالؤوا بينهم على التخلف عن رسول الله إذا دعاهم كلما وجدوا لذلك سبيلاً كما أشار إليه قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} [التوبة: 120]. فالمعنى. لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كما جعل المنافقون بينهم وتواطأوا على ذلك.

وهذه الجملة معترضة بين جملة: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] وما تبعها وبين جملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً}.

وجملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} استئناف تهديد للذين كانوا سبب نزول آية {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] الآية، أي أولئك المؤمنون وضدهم المعرض بهم ليسوا بمؤمنين. وقد علِمَهم الله وأطلع على تسللهم.

(وقد) لتحقيق الخبر لأنهم يظنون أنهم إذا تسللوا متستّرين لم يطلع عليهم النبي فأعلمهم الله أنه عَلمهم، أي أنه أعْلم رسوله بذلك...

و {الذين يتسللون} هم المنافقون، والتسلل: الانسلال من صُبرة، أي الخروج منه بخفية خروجاً كأنه سَلّ شيء من شيء، يقال: تسلل، أي تكلف الانسلال مثل ما يقال: تدخل إذا تكلف إدخال نفسه.

واللواذ: مصدر لاَوَذَهُ، إذا لاَذَ به ولاذَ به الآخر. شبه تستر بعضهم ببعض عن اتفاق وتآمر عند الانصراف خفية بلوذ بعضهم ببعض لأن الذي ستر الخارج حتى يخرج هو بمنزلة من لاذ به أيضاً فجعل حصول فعله مع فعل اللائذ كأنه مفاعلة من اللوذ...

و {منكم} متعلق ب {يتسللون}. وضمير {منكم} خطاب للمؤمنين، أي قد علم الله الذين يخرجون من جماعتكم متسللّين ملاوذين.

وفرع على ما تضمنته جملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} تحذير من مخالفة ما نهى الله عنه بقوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم} الآية بعد التنبيه على أنه تعالى مطلع على تسللهم.

والمخالفة: المغايرة في الطريق التي يمشي فيها بأن يمشي الواحد في طريق غير الطريق الذي مشى فيه الآخر، ففعلها متعدّ. وقد حذف مفعوله هنا لظهور أن المراد الذين يخالفون الله، وتعدية فعل المخالفة بحرف (عن) لأنَّه ضُمّن معنى الصدود كما عُدّي ب (إلى) في قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} لما ضمن معنى الذهاب. يقال خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه، ولو تُرِكت تعديته بحرف جر لأفاد أصل المخالفة في الغرض المسوق له الكلام.

وضمير {عن أمره} عائد إلى الله تعالى. والأمر هو ما تضمنه قوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} فإن النهي عن الشيء يستلزم الأمرَ بضده فكأنه قال: اجعلوا لدعاء الرسول الامتثال في العلانية والسر...

والحذر: تجنب الشيء المخيف. والفتنة: اضطراب حال الناس، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} في البقرة (191). والعذاب الأليم هنا عذاب الدنيا، وهو عذاب القتل.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وهذا تأكيد من الله على التزام الأدب الإيماني في التعامل مع الرسول، في ما يدعوهم إليه من قضايا ترتبط برسالته، أو ترتبط بقيادته وولايته على المسلمين في إدارة شؤونهم العامة، عندما يدعوهم إلى العمل الصالح، أو ليشاورهم في أمور الحرب والسلم، أو إلى الصلاة جامعةً، أو إلى غير ذلك، فعليهم أن يعتبروا الدعوة ملزمة على مستوى الواجبات الشرعية، تماماً كما هي العبادات في ذاتها، ولا ينظروا إلى دعوته نظرتهم إلى دعوة بعضهم بعضاً باعتبار أنها غير ملزمةٍ لهم، لأن طبيعة علاقة القيادة بالقاعدة تختلف عن علاقة القاعدة ببعضها البعض، لأن الأولى أي علاقة القاعدة بالقيادة تتصل بالجانب المصيري في تنظيم المجتمع من أجل سلامة خطه وتوازن موقعه، بينما تتصل الثانية بالعلاقات الاجتماعية الخاصة التي يملك فيها كل واحدٍ حريته أمام الآخر، بعيداً عن كل حالات الإلزام الذاتي والاجتماعي، وعن القضايا العامة في مضمونها المصيري الذي يرقى إلى مستوى الأهمية الكبرى...