وبعد أن عظم - سبحانه - شأن الإسلام ، وبين أنه هو الدين المقبول عنده ، أتبع ذلك ببيان أن سنته جرت فى خلقه بأن يزيد الذين اهتدوا هدى ، أما الجاحدون للحق عن علم ، والمتبعون لأهوائهم وشهواتهم فهم بعيدون عن هداية الله ، ولن يقبلهم - سبحانه - إلا إذا تابوا عن ضلالهم ، وأصلحوا ما فسد منهم ، استمع إلى القرآن وهو يصور هذا المعنى بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { كَيْفَ يَهْدِي . . . }
روى المفسرون روايات فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة منها ما أخرجه النسائي عن ابن عباس قال . إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم ؛ فأرسل إلى قومه : سلوا لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لى من توبة ؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا . هل له من توبة ؟ فنزلت هذه الآيات ، فأرسل إليه قومه فأسلم .
وعن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله هذه الآيات . قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه . فقال الحارث : إنك والله - ما علمت - لصدوق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه وعن الحسن البصرى أنه قال : إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت النبى صلى الله عليه وسلم فى كتابهم وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب حين بعث من غيرهم .
هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات ، ويبدو لنا أن أقربها إلى سياق الآيات هى الرواية التى جاءت عن الحسن البصرى بأن المقصود بالآيات أهل الكتاب ، وذلك لأن الحديث معهم من أول السورة ولأن القرآن قد ذكر فى غير موضع أن أهل الكتاب كانوا يعرفون صدق النبى صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأنهم كانوا يستفتحون به { عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } ومع هذا فليس هناك ما يمنع من أن يكون حكم هذه الآيات شاملا لكل من ذكرتهم الروايات ولكل من يشابههم ، إن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قال ابن جرير - بعد أن ساق هذه الروايات - ما ملخصه : وأشبه هذه الأقوال بظاهر التنزيل ما قاله الحسن : من أن هذه الآيات معنى بها أهل الكتاب على ما قال ، وجائز أن يكون الله - تعالى - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم فى ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فى هذه الآيات ، ثم عرف عباده سنته فيهم فيكون داخلا فى ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ثم كفى به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ثم ارتد وهو حى عن إسلامه ، فيكون معينا بالآيات جميع هذين الصنفين وغيهرما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله .
والاستفهام فى قوله - تعالى - { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } للنفى ولاستبعاد هدايتهم إلى الصراط المستقيم وهم على هذا الحال من الارتكاس فى الكفر والضلال ، مع علمهم بالحق ، وإيمانهم به لفترة من الوقت .
والمعنى : أن الله - تعالى - جرت سنته فى خلقه ألا يهدى إلى الصراط المستقيم ، قوما { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } أى ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا ، وبعد أن { شهدوا أَنَّ الرسول } وهو محمد صلى الله عليه وسلم " حق " وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، وبعد أن { جَآءَهُمُ البينات } أى البراهين والحجج الناطقة بحقيقة ما يدعيه ، من قرآن كريم عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله ، ومن معجزات باهرة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى أن حالهم التى أوجبت هذا النفى والاستبعاد تتمثل فى أنهم كانوا مؤمنين ، وكانوا يشهدون بأن الرسول حق ، وجاءتهم البينات اليقينية الملزمة التى تؤيد إيمانهم وشهادتهم ، ومع كل ذلك استحبوا العمى على الهدى ، واختاروا الكفر على الإيمان ، واستولى عليهم التعصب بالباطل فأرداهم وحرمهم من هداية الله حتى يغيروا ما بأنفسهم ويتوبوا عن غيهم ، ويصلحوا ما أفسدوه ، ويخلصوا وينيبوا إلى خالقهم وبارئهم .
قال صاحب الكشاف : " قوله { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً } أى كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف ، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق وبعد ما جاءته الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التى تثبت بمثلها النبوة - وهم اليهود - كفروا بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به ، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات .
فإن قلت : علام عطف قوله { وشهدوا } ؟ قلت : فيه وجهان : أن يعطف على ما فى إيمانهم من معنى الفعل ، لأن معناه بعد أن آمنوا . ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار " قد " . بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق " .
وقوله - تعالى - { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } جملة حالية أو معترضة .
والمعنى : أنه - سبحانه - قد مضت سنته فى خلقه أنه لا يهدى إلى الحق أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان ، عن تعمد وإصرار ، ووضعوا الشىء فى غير موضعه مع علمهم بسوء صنيعهم .
وفى تذييل الآية الكريمة بهذه الجملة مع إطلاق لفظ الظلم ، إشعار بأنهم قد ظلموا أنفسهم بإيقاعها فى مهاوى الردى والعذاب وظلموا الرسول الذى شهدوا له بأن ما جاء به هو الحق ثم كفروا به ، وظلموا الحقائق والبراهين التى نطقت بأحقية الإيمان وببطلان الكفر ثم تركوا هذه الحقائق والبراهين وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم ومطامعهم .
وإن الظلم متى سيطر على النفوس أفقدها رشدها وإدراكها للأمور إدراكا سليما ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.