قوله تعالى : { فلذلك فادع } أي : فإلى ذلك ، كما يقال : دعوت إلى فلان ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ، { واستقم كما أمرت } أي : اثبت على الدين الذي أمرت به ، { ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي : آمنت بكتب الله كلها ، { وأمرت لأعدل بينكم } أن أعدل بينك . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام . وقيل : لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء ، { الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } يعني : إلهنا واحد ، وإن اختلفت أعمالنا ، فكل يجازى بعمله . { لا حجةً } لا خصومة . { بيننا وبينكم } نسختها آية القتال ، فإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة ، { الله يجمع بيننا } في المعاد لفصل القضاء . { وإليه المصير }
{ فلذلك فادع } أي إلى ذلك يعني إلى إقامة الدين فادع الناس { واستقم كما أمرت } اثبت على الدين الذي أمرت به { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي بجميع كتب الله المنزلة { وأمرت لأعدل بينكم } لأسوي بينكم في الإيمان بكتبكم وقيل لأعدل بينكم في القضية وقوله { لا حجة } أي لا خصومة { بيننا وبينكم } وهذا منسوخ بآية القتال
قوله تعالى : " فلذلك فادع واستقم كما أمرت " لما أجاز أن يكون الشك لليهود والنصارى ، أو لقريش قيل له : " فلذلك فادع " أي فتبينت شكهم فادع إلى الله ، أي إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصاهم به . فاللام بمعنى إلى ، كقوله تعالى : " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] أي إليها . و " ذلك " بمعنى هذا . وقد تقدم أول " البقرة " {[13479]} . والمعنى فلهذا القرآن فادع . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع . وقيل : إن اللام على بابها ، والمعنى : فمن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع واستقم . قال ابن عباس : أي إلى القرآن فادع الخلق . " واستقم " خطاب له عليه السلام . قال قتادة : أي استقم على أمر الله . وقال سفيان : أي استقم على القرآن . وقال الضحاك : استقم على تبليغ الرسالة . " ولا تتبع أهواءهم " أي لا تنظر إلى خلاف من خالفك . " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم " أي أن أعدل ، كقوله تعالى : " وأمرت أن أسلم لرب العالمين " {[13480]} [ غافر : 66 ] . وقيل : هي لام كي ، أي لكي أعدل . قال ابن عباس وأبو العالية : لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول . وقال غيرهما : لأعدل في جميع الأحوال وقيل : هذا العدل هو العدل في الأحكام . وقيل في التبليغ . " الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم " قال ابن عباس ومجاهد : الخطاب لليهود ، أي لنا ديننا ولكم دينكم . قال : نسخت بقوله : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " {[13481]} [ التوبة : 29 ] الآية . قال مجاهد : ومعنى " لا حجة بيننا وبينكم " لا خصومة بيننا وبينكم . وقيل : ليس بمنسوخ ؛ لأن البراهين قد ظهرت ، والحجج قد قامت ، فلم يبق إلا العناد ، وبعد العناد لا حجة ولا جدال . قال النحاس : ويجوز أن يكون معنى " لا حجة بيننا وبينكم " على ذلك القول : لم يؤمر أن يحتج عليكم يقاتلكم ، ثم نسخ هذا . كما أن قائلا لو قال من قبل أن تحول القبلة : لا تصل إلى الكعبة ، ثم . حول الناس بعد ، لجاز أن يقال نسخ ذلك . " الله يجمع بيننا " يريد يوم القيامة . " وإليه المصير " أي : فهو يحكم بيننا إذا صرنا إليه ، ويجازي كلا بما كان عليه . وقيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة ، وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش ، على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته .
ولما ثبت بهذا زيغهم عن أوامر الكتاب الآتي من الله ، سبب عنه أمره صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس ما ينفعهم عن رسالة ربه الذي أنزل تلك الكتب في آية واحدة مفصلة بعشر كلمات في كل كلمة منها حكم برأسه ، قالوا : ولا نظير لها إلا آية الكرسي فإنها عشرة أصول كل أصل منها مستقل برأسه فقال مسبباً عن حالهم الاجتهاد في إزالتها والعمل بضدها : { فلذلك } أي لهذا الوحي العلي الرتبة الذي وصينا بمقاصده جميع الرسل أصحاب الشرائع الكبار من أولي العزم وغيرهم ، أو لذلك التصرف المباعد للصواب والشك في أمر الكتاب .
ولما كان سياق الدعوة للخلق إلى ما أوحى إليه فأنزل عليه ، قدم قوله : { فادع } إلى من أرسلك الله به من الاتفاق على ما أمر به الإله من الاجتماع على الملة الحنيفية . ولما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه ، قال : { واستقم } أي اطلب القوم من ربك على مشاق الدعوة ليعينك عليه وأوجده على ما يدعو إليه كتابه مما تدعو إليه ويجب عليه { كما أمرت } ممن لا أمر لغيره في تفاصيل الدعاء من اللين والغلظة والتوسط وغير ذلك من تحديث الناس بما تحتمل عقولهم وتربيتهم على حسب ما ينفعهم .
ولما كان كل ما خالف كتابنا هوى ، وكل ما خالف كتابنا فهو على مجرد الهوى ، قال : { ولا تتبع } أي تعمداً { أهواءهم } في شيء ما ، فإن الهوى لا يدعو إلى خير ، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه .
ولما كانوا قد تفرقوا في الكتاب وشكوا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، أمره بما يخالف حالهم فقال : { وقل } أي لجميع أهل الفرق ، وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق : { آمنت بما } أي بكل شيء . ولما كان أكمل الناس إيماناً أكثرهم استحضاراً لأوصاف الكمال من الجلال والجمال ، صرف القول إلى الاسم الأعظم إشارة إلى سلوك أعلى المسالك في ذلك فقال : { أنزل الله } أي الذي له العظمة الكاملة { من كتاب } لا أفرق بين شيء من كتبه ولا أحد من رسله ، بل كل كتاب ثبت أنه نزل على رسول ثبتت رسالته بالمعجزة فأنا به مؤمن وإليه داعٍ كما اقتضاه كمال القوة النظرية ، قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي : حدثنا أبو بكر - هو ابن الأنباري - حدثنا أبو جعفر محمد بن عثمان حدثنا صحاب بن الحارث أنا بشر بن عمارة عن محمد بن سوقة قال : أتى علياً رضي الله عنه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما الإيمان أو كيف الإيمان ؟ قال : الإيمان على أربع دعائم : على الصبر واليقين والعدل والجهاد ، والصبر على أربع شعب : على الشوق والشفق والزهادة والترقب ، فمن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات ، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات ، واليقين على أربع شعاب : تبصرة الفطنة وتاويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين ، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ، ومن تأول الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة عرف السنة ، ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين ، والعدل على أربع شعب : على غائص الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وشرائع الحكم ، فمن فهم جمع العلم ، ومن حلم لم يضل في الحكم ، ومن علم عرف شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرط أمره ، وعاش في الناس . والجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم آناف الفاسقين ، ومن صدق في المواطن فقد قضى الذي عليه ، ومن شنئ المنافقين غضب لله وغضب الله له فأزلفه وأعلى مقامه ، قال : فقام الرجل فقبل رأسه .
ولما أخبر بالعدل في القوة النظرية ، أتبعه ذلك في القوة العملية فقال : { وأمرت } أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ { لأعدل } أي لأجل أن أعدل { بينكم } أيها المفرّقون في الأديان من العرب والعجم من الجن والإنس كما دعا إليه كمال القوة العملية ، ثم علل ذلك بقوله : { الله } أي الذي له الملك كله { ربنا وربكم } أي موجدنا ومتولي جميع أمورنا ، فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده .
ولما كان الرب واحداً ، انتج عنه قوله : { لنا أعمالنا } خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا { ولكم أعمالكم } خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم ، لأنه لا داعي لأن نأخذ عمل بعضنا فنعطيه لغيره ، لأن ذلك لا يفعله إلا ذو غرض ، وهو سبحانه محيط بصفات الكمال ، فهو منزه عن الأغراض ، ولما وصل بتمام هذه الجملة في إزالة الريب وإثبات الحق إلى ما هو كالشمس لثبوت الرسالة بالمعجزات وإعجاز هذا الكتاب وتصادقه مع ما عند أهل الكتاب ، وبيان هاتين المقدمتين اللتين لا نزاع بين أحد من الخلق فيهما كانت نتيجة ذلك : { لا حجة } أي موجودة بمحاجة أحد منا لصاحبه { بيننا وبينكم } لأن الأمر وصل إلى الانكشاف التام فلا فائدة بعده للمحاجة فما بقي إلا المجادلة بالسيوف ، وإدارة كؤوس الحتوف ، لأنا نعلم بإعلام الله لنا في كتابه الذي دلنا إعجازه للخلائق على أنه كلامه ، فنحن نسمعه لذلك منه أنا على محض الحق وأنكم على محض الباطل ، وقد أعذرنا إليكم وأوصلنا ببراهينه إلى المشاهدة فلم يبق إلا السيف عملاً بفضيلة الشجاعة .
ولما كان هذا موضع أن يقال : أفما تخافون الله فيمن تقاتلونه وهو عباده ، أجاب بقوله مظهراً غير مضمر تعظيماً للأمر : { الله } أي الذي هو أحكم الحاكمين { يجمع بيننا } أي نحن وأنتم على دين واحد أراد فلا يكون قتال ، وفي الآخرة على كل حال { فهو يحكم بيننا }{ وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون }[ الشعراء : 227 ] فما أقدمنا على القتال إلا عن بصيرة .
ولما كان الجامع بين ناس قد يكون مآلهم إلى غيره ، بين أن الأمر فيه على غير ذلك ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمنه كان المبدأ : { وإليه } أي لا إلى غيره من حيث هذا الاسم الجامع لجميع الصفات { المصير * } حساً ومعنى لتمام عزته وشمول عظمته وكمال رحمته ، وما كان فيما بين المبدأ والمعاد من الأمور التي كانت بحيث يظن أنها خارجة - لتصرف الغير فيها - إنما كانت ابتلاء منه يقيم بها الحجة على العباد على ما يتعارفونه بينهم ، وما كان المتصرف فيها غيره فتصرفهم إنما كان أمراً طارئاً يصحح عليهم الحجة ويلزمهم الحجة .