أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

{ حتى إذا جاء أمرنا } غاية لقوله { ويصنع الفلك } وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام . { وفار التّنور } نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور ، و{ التنور } تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها ، أو ي الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه الأرض أو أشرف موضع فيها . { قلنا احمل فيها } في السفينة . { من كل } من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها . { زوجين اثنين } ذكرا وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف أنثى . { وأهلك } عطف على { زوجين } أو { اثنين } ، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم . { إلا من سبق عليه القول } بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين . { ومن آمن } والمؤمنين من غيرهم . { وما آمن معه إلا قليل } قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم . روي أنه عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلاثين ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها الأنس وفي أعلاها الطير .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

{ حتى } غاية ل { يصنع الفلك } [ هود : 38 ] أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا ، ف { إذا } ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب . وهو جملة { قلنا احمل } . وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط ، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء ، وهو نظم بديع بإيجازه .

و { حتى } ابتدائية .

والأمر هنا يحتمل أمْر التكوين بالطوفان ، ويحتمل الشّأن وهو حادث الغرق ، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنّه فوق ما يعرفون .

ومَجيء الأمر : حصوله .

والفوران : غليان القدر ، ويطلق على نبع الماء بشدة ، تشبيهاً بفوران ماء في القدر إذا غلي ، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح عليه السّلام مثل قوله : { وفجّرنا الأرض عيوناً } [ القمر : 12 ] . ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور ، فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز ، فكثرت الأقوال في تفسير التنور ، بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله . ومنها ما له وجه وهو متفاوت .

فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته ، فجعل الغوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح عليه السّلام إذ أفار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركِب الفلكَ وأركبَ من معه .

ومنهم من حمل التنور على المَجاز المفرد ففسره بسطح الأرض ، أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور .

ومنهم من فسره بأعلى الأرض .

ومنهم من حمل { فار } و { التنور } على الحقيقة ، وأخرج الكلام مَخرج التمثيل لاشتداد الحال ، كما يقال : حمي الوطيس . وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون : وأنشد الطبرسي قول الشاعر . وهو النابغة الجعدي :

تفورُ علينا قِدرهم فنديمها *** ونفثأها عنّا إذا قِدرها غلى

يريد بالقدر الحرب ، ونفثأها ، أي نسكنها ، يقال : فثأ القِدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها . وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين .

والذي يظهر لي أن قوله : { وفارَ التنور } مثَل لبلوغ الشيء إلى أقصَى ما يتحمل مثله ، كما يقال : بلغ السيل الزُبى ، وامتلأ الصاع ، وفاضت الكأس وتفاقم .

والتنور : محفل الوادي ، أي ضفته ، فيكون مثل طَما الوادي من قبيل بلغ السيل الزُبى . والمعنى : بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغاً لا يغتفر لهم بعدُ كما قال تعالى : { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [ الزخرف : 55 ] .

والتنور : اسم لمَوقد النار للخبز . وزعمه . الليث مما اتفقت فيه اللغات ، أي كالصابون والسمور . ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس . وقال أبو منصور : كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي .

والدليل على ذلك أنه فعّول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل ، وقال غيره : ليس في كلام العرب نون قبل رَاء فإن نرجس معرب أيضاً .

وقد عدّ في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن . ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد . قال أبو علي الفارسي : وزنه فَعّول . وعن ثعلب أنه عربي ، قال : وزنه تَفعول من النور ( أي فالتاء زايدة ) وأصله تنوور بواوين ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ثم شددت النون عوضاً عما حذف أي مثل قوله : تقَضّى البَازي بمعنى تقضّض .

وقرأ الجمهور { من كلّ زوجين } بإضافة { كل } إلى { زوجين } .

والزوج : شيء يكون ثَانياً لآخَرَ في حالة . وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجاً له ، وكل منهما زوج للآخر . والمراد ب { زوجين } هنا الذكر والأنثى من النوع ، كما يدل عليه إضافة { كل } إلى { زوجين } ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع .

و { من } تبعيضية ، و { اثنين } مفعول { احمل } ، وهو بيان لئلاّ يتوهّم أن يحمل كل زوجين واحداً منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين ، كما تقدم في قوله تعالى : { ثمانية أزواج } في سورة [ الأنعام : 143 ] . ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل .

وقرأه حفص { من كلَ } بتنوين { كلَ } فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه ، أي من كل المخلوقات ، ويكون { زوجين } مفعول { احمل } ، ويكون { اثنين } صفة ل { زوجين } أي لا تزد على اثنين .

وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له . وزوجه أول من يبادر من اللفظ ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال تعالى : { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [ القصص : 29 ] ، وقال : { وإذ غدوتَ من أهلك } [ آل عمران : 121 ] أي من عند عائشة رضي الله عنها .

و { من سبق عليه القول } أي من مضى قول الله عليه ، أي وعيده . فالتعريف في { القول } للعهد ، يعني إلاّ من كان من أهلك كافراً . ، وماصدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التّحريم وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة . وكان لنوح عليه السّلام امرأتان .

وعدّي { سبَق } بحرف { على } لتضمين { سَبَق } معنى : حَكَم ، كما عدّي باللام في قوله : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } [ الصافات : 171 ] لتضمينه معنى الالتزام النافع .

و { مَن آمن } كلّ المؤمنين .

وجملة { وما آمن معه إلا قليل } اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين . قيل : كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفاً وسبعين بين رجال ونساء ، فكان معظم حمولة السفينة من الحَيوان .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{حتى إذا جاء أمرنا}، يعني قولنا في نزول العذاب بهم، {وفار التنور}، فار الماء من التنور الذي يخبز فيه... {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين}، يعني صنفين اثنين ذكرا وأنثى، فهو زوجان، ولولا أنه قال: اثنين، لكان الزوجان أربعة، {و} احمل {وأهلك}... في السفينة، {إلا من سبق عليه القول}، يعني العذاب في اللوح المحفوظ من أهلك، يعنى:... فلا تحملهم معك، فاستثنى من أهله ابنه وامرأته. {ومن ءامن}، يعني ومن صدق بتوحيد الله، فاحمله في السفينة. يقول الله تعالى: {وما ءامن معه} مع نوح، {إلا قليل}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"حتى إذَا جاءَ أمْرُنا" يقول: ويصنع نوح الفلك حتى إذا جاء أمرنا الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان الذي يغرقهم.

وقوله: "وَفارَ التّنّورُ "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛

فقال بعضهم: معناه: انبجس الماء من وجه الأرض، "وفار التنور"، وهو وجه الأرض... عن ابن عباس أنه قال في قوله: "وَفارَ التّنّورُ" قال: التنور: وجه الأرض. قال: قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك قال: والعرب تسمى وجه الأرض: تنور الأرض...

وقال آخرون: هو تنوير الصبح من قولهم: نوّر الصبح تنويرا... وقال آخرون: معنى ذلك: وفار أعلى الأرض وأشَرفِ مكان فيها بالماء. وقال: التنور أشرف الأرض...

وقال آخرون: هو التنور الذي يختبز فيه... عن ابن عباس، قوله: "حتى إذا جاءَ أمْرُنا وفارَ التّنّورُ" قال: إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه الماء فإنه هلاك قومك...

وفوران الماء سَوْرة دفعته، يقال منه: فار الماء يفور فوَرَانا وفَوْرا، وذاك إذا سارت دفعته.

وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: "التّنّور" قول من قال: هو التنور الذي يخبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها، وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به.

"قُلْنَا" لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحا أن نعذّبهم به، وفار التنور الذي جعلنا فورانه بالماء آية مجيء عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه: "احْمِلْ فِيها" يعني في الفلك "مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ" يقول: من كلّ ذكر وأنثى... عن مجاهد: "مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ" قال: ذكر وأنثى من كلّ صنف...

وقوله: "وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" يقول: واحمل أهلك أيضا في الفلك، يعني بالأهل: ولده ونساءه وأزواجه "إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" يقول: إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع من أهلك من قومك.

ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله؛ فقال بعضهم: هو بعض نساء نوح...قال ابن جريج: "وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" قال: العذاب، هي امرأته كانت من الغابرين في العذاب.

وقال آخرون: بل هو ابنه الذي غرق...

وقوله: "وَمَنْ آمَنَ" يقول: واحمل معهم من صدّقك واتبعك من قومك. يقول الله: "وما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ" يقول: وما أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل.

واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك...

والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: "وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ" يصفهم بأنهم كانوا قليلاً، ولم يحدد عددهم بمقدار ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حد من كتاب الله أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(جاء أمرنا) أي جاء وقت أمرنا بالعذاب الذي استعجلوه كقولهم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) [هود: 32] وكذلك كانت عادة الأمم السالفة استعجال العذاب من رسلهم. سمى العذاب أمر الله لما لا صنع لأحد فيه، وكذلك المرض سماه أمر الله لما لا صنع لأحد من الخلائق فيه، وسمى الصلاة أمر الله لما بأمره يصلى.

(وفار التنور) قال أبو عوسجة: (وفار التنور) يقال إذا فار الماء إذا خرج يفور فورا أي غلى كما تغلي القدر وتصديقه قوله: (وهي تفور...) [الملك: 7و8] قالوا: فار أي خرج، وظهر...

وقوله تعالى: (وما آمن معه إلا قليل) يذكر هذا تذكيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مننه ونعمه التي أنعمها عليه؛ لأن نوحا عليه السلام مع طول مكثه بين أظهر قومه وكثرة دعائه قومه إلى دين الله ومواعظه لم يؤمن إلا القليل منهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير؛ يعرفه نعمه عليه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

طال انتظارُهم لِمَا كان يَتَوَعَّدُهم به نوحٌ عليه السلام على وجه الاستبعاد، ولم يَزِدْهُم تطاولُ الأيامٍ إلا كفراً؛ وصَمَّمُوا على عقد تكذيبهم. ثم لمَّا أتاهم الموعودُ إياهم بغتةً، وظهر من الوضع الذي لم يُحِبُّوه فارَ الماءُ من التنور المسجور، وجادت السماءُ بالمطر المعبور.

{قُلْنَا احْمِل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَينِ}: استبقاءً للتناسل...

{إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ الْقَوْلُ} بالشقاوة. وفيه تعريف بأن حُكْمَ الأَزَل لا يُرَدُّ، والحقُّ -سبحانه- لا يُنَازَعُ، والجبَّارُ لا يُخَاصَمُ، وأن مَنْ أقصاه ربُّه لم يُدْنِه تنبيهٌ ولا بِرٌّ ولا وعظ.

{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قِلِيلٌ} ولكن بَارَكَ الحقُّ -سبحانه- في الذين نجَّاهم من نَسْلِه، ولم يدخل خَللٌ في الكونِ بعد هلاكِ مَنْ أَهْلَك مِنْ قومه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{حتى إذا جاء أمرنا} يحتمل... أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} فكان المراد هذا... معنى {فار}: نبع على قوة وشدة تشبيها بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور، والذي روي أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة، وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين، فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة...

فإن قيل: الإنسان أشرف من جميع الحيوانات، فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات؟

قلنا: الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه، فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب، بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات، فلهذا السبب وقع الابتداء به...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{حتى إذا جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاكهم {وفار} أي غلا وطفح {التنور} وعن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد أنه الحقيقي الذي يخبز فيه، و هذا هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل، لأن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل عبث كما قاله أهل الأصول {قلنا} بعظمتنا {احمل} ولما كان الله تعالى قد أمره أن يجعل لها غطاء -كما قاله أهل التفسير- لئلا تمتلئ من شدة الأمطار، كانت الظرفية فيها بخلاف غيرها من السفن واضحة فلذلك قال: {فيها} أي السفينة {من كل زوجين} من الحيوانات، والزوج فرد يكون معه آخر لا يكمل نفعه إلا به {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} أي احملهم، والأهل: العيال {إلا من سبق} غالباً {عليه القول} بأني أغرقه وهو امرأته وابنه {ومن} أي واحمل فيها من {آمن}... ثم سلى المخاطب بهذه القصص صلى الله عليه وسلم وذكره نعمته بكثرة من اتبعه مع صدعهم بمؤلم الإنذار على قصر الزمان دون نوح عليهم السلام مع تطاول الزمن فقال: {وما} أي والحال أنه ما {آمن} كائناً {معه} أي بإنذاره {إلا قليل} بسبب تقديرنا لا بإغضائهم بما كوفحوا به من الإنذار...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{حتى إذا جاء أمرنا} هذا بيان لابتداء الغاية مما ذكر قبله من الاستعداد لهلاك قوم نوح أي وكان يصنع الفلك كما أمره، ويقابل السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر، حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم {وفار التنور} اشتد غضب الله تعالى عليهم. فهو مجاز كحمي الوطيس، أو فار الماء من التنور عند نوح لأنه بدأ ينبع من الأرض. والتنور الذي يخبز فيه الخبز معروف عند العرب...

والفور والفوران ضرب من الحركة والارتفاع القوي يقال في الماء إذا نبغ وجرى، وإذا غلا وارتفع، قال في الأساس: فارت القدر، وفارت فوارتها، وعين فوارة في أرض خوارة، وفار الماء من العين. ومن المجاز: فار الغضب، وأخاف أن تفور علي، وقال ذلك في فورة الغضب اه.

وقال الراغب في مفردات القرآن: الفور شدة الغليان ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت وفي القدر وفي الغضب، نحو {وهي تفور} [الملك: 7] {وفار التنور} اه. والمتبادر من فوران التنور هنا اشتداد غضب الله تعالى على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس وحلول وقت انتقامه منهم...

{قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين}... أي حتى إذا جاء موعد أمرنا قلنا لنوح حينئذ احمل فيها أي في الفلك وهو السفينة من كل زوج اثنين ذكرا وأنثى. والتقدير على قراءة حفص: احمل فيها من كل نوع من الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض {وأهلك إلا من سبق عليه القول} أي واحمل فيها أهل بيتك ذكورا وإناثا وأهل بيت الرجل عند الإطلاق نساؤه وأولاده وأزواجهم، والظاهر أن المستثنى منهم كفارهم إن كان فيهم كفار لأنهم يدخلون في عموم قوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون} وإلا كان المستثنى ولده الذي ستذكر قصته قريبا {ومن آمن} معك من قومك {وما آمن معه إلا قليل} منهم، ولم يبين لنا الله تعالى ولا رسوله عددهم، فكل ما قاله المفسرون فيهم مردود لا دليل عليه كما قال ابن جرير الطبري، كما أنه لم يبين لنا أنواع الحيوانات التي حملها ولا كيف جمعها وأدخلها السفينة، وهي مفصلة في سفر التكوين، وللمفسرين فيها إسرائيليات مضحكة تخالفها، لا ينبغي تضييع شيء من العمر في نقلها وإشغال القراء بها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة:

(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور، قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك -إلا من سبق عليه القول- ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل. وقال: اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم).

وتتفرق الأقوال حول فوران التنور، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص، وفي حدود مدلوله بلا زيادة.

وأقصى ما نملك أن نقوله: إن فوران التنور -والتنور الموقد- قد يكون بعين فارت فيه، أو بفوارة بركانية. وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح، أو كان مصاحبا مجرد مصاحبة لمجيء الأمر، وبدءا لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء. وسح الوابل من السماء.

لما حدث هذا (قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين...) كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها. فقد أمر أولا بصنع الفلك فصنعه، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه، ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك. (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور).. أمر بالمرحلة التالية.

(قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن)..

ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول (من كل زوجين اثنين) وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية. أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص: (احمل فيها من كل زوجين اثنين).. مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء. وما وراء ذلك خبط عشواء..

(وأهلك -إلا من سبق عليه القول -)..

أي من استحق عذاب الله حسب سنته.

(ومن آمن)..

من غير أهلك.

(وما آمن معه إلا قليل)..