تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

وقوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) قوله : ( جاء أمرنا ) أي جاء وقت أمرنا بالعذاب الذي استعجلوه كقولهم : ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )[ هود : 32 ] وكذلك كانت عادة الأمم السالفة استعجال العذاب من رسلهم .

سمى العذاب أمر الله لما لا صنع لأحد فيه ، وكذلك المرض سماه أمر الله لما لا صنع لأحد من الخلائق فيه ، وسمى الصلاة أمر الله لما بأمره يصلى .

وقوله تعالى : ( وفار التنور ) قال أبو عوسجة : ( وفار التنور ) يقال إذا فار الماء إذا خرج يفور فورا أي غلى كما تغلي القدر وتصديقه [ قوله ][ من م ، ساقطة من الأصل ] : ( وهي تفور ) ( تكاد )[ الملك : 7و8 ] قالوا : فار أي خرج ، وظهر .

والتنور اختلف فيه ؛ قال بعضهم : التنور هو وجه الأرض ؛ قالوا : إذا رأيت المال قد خرج ، ونبع ، وظهر على وجه الأرض ، فاركب ، وقال بعضهم : التنور هو التنور الخابزة التي يخبز فيها ؛ قالوا : إذا رأيت الماء نبع من تنورك فاركب ؛ قالوا : كان الماء ينزل من السماء ، وينبع من الأرض كقوله : ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) ( وفجرنا الأرض عيونا )[ القمر : 11و12 ] لكن جعل علامة وقت ركوبه السفينة هو خروج الماء من الأرض ، ونبعه منها .

وقوله تعالى : ( من كل زوجين اثنين ) ويحتمل هذا وجهين : يحتمل أن كنا قلنا له إذا فار التنور ( احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ويحتمل أن قلنا له وقت فور الماء من التنور ( احمل فيها من كل زوجين ) .

وقوله تعالى : ( من كل زوجين اثنين ) الزوج هو اسم فرد لذي شفع ، ليس هو اسم الشفع حتى يقال عند الاجتماع ذلك ، ولكن ما ذكرنا أنه اسم لذي شفع ؛ كأن الإناث صنف وزوج ، والذكر صنف وزوج ، فيكون الذكر والأنثى زوجين ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( زوجين اثنين ) أي من ذكر وأنثى . ثم يحتمل زوجين من ذوي الأرواح التي يكون لهم النسل لئلا ينقطع نسلهم ، ويحتمل ذوي الأرواح وغيرها[ في الأصل : غيره ، في م : وغيره ] ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) قال بعضهم : قوله ( وأهلك ) أراد أهله والذين آمنوا معه ؛ يقول ( واحمل فيها من كل زوجين اثنين ) واحمل أهلك أيضا ( إلا من سبق عليه القول ) أي إلا من كان في علم الله أنه لا يؤمن ، وإلا من كان في علم الله أنه يهلك .

وقال بعضهم : قوله : ( وأهلك ) أراد أهله خاصة ، ثم استثنى من سبق عليه القول ، وهما[ في الأصل وم : وهو ] ابنه وزوجته ، وهما من أهله . ألا ترى أنه ذكر من آمن معه ؛ وهو قوله : ( ومن آمن ) أي احمل أهلك الذين آمنوا معك ( إلا من سبق عليه القول ) من أهلك وغيره[ من م ، في الأصل : غيره ] إنه في الهالكين ؟ أو يقول : ( إلا من سبق عليه القول ) إنه لا يؤمن ؛ فهذا يدل أن في أهله من كان ظالما كافرا حين[ في الأصل وم : حيث ] استثنى من أهله ، والله أعلم .

[ وقوله تعالى ][ من م ، ساقطة من الأصل ] : ( وما آمن معه إلا قليل ) يذكر هذا تذكيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مننه ونعمه التي أنعمها عليه ؛ لأن نوحا عليه السلام مع طول مكثه بين أظهر قومه وكثرة دعائه قومه إلى دين الله ومواعظه لم يؤمن إلا القليل منهم . ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير ؛ يعرفه نعمه عليه .

وفيه دلالة رد قول من يقول : إن المواعظ إنما تنفع الموعوظ على قدر استعمال الواعظ ، وليس هكذا ، ولكن على قدر قبول الموعوظ إياها وقدر الإقبال إليها ؛ لأن نوحا عليه السلام كان أشد الناس استعمالا للمواعظ وأكثرهم ، ثم لم يؤمن من قومه إلا القليل . دل أنه ليس لما فهموا ، ولكن لما ذكرنا .

وأما ما ذكر أهل التأويل أنه حمل في السفينة حبات العنب ، فأخذه إبليس ، فلم يعطه ، إلا أن يعطي[ في الأصل وم : أعطى ] له الشركة ، فذلك شيء ، لا علم لنا به . فإن ثبت ذلك فيكون فيه دلالة أن ليس في سائر الأنبذة والأشربة نصيب ، إنما يكون له في ما يخرج من العنب وتقدير الثلث والثلثين ، إنما يكون في عصير العنب خاصة ، ليس في غيره ، والله أعلم .