بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

قوله تعالى : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا } يعني : قولنا بالعذاب ، ويقال : عذابنا ، وهو الغرق { وَفَارَ التنور } يعني : نبع الماء من أسفل التنور . وقال مقاتل : التنور الذي يخبز فيه في أقصى داره بالشام . وقال ابن عباس : { وفار التنور } ، يعني : نبع الماء من وجه الأرض . وقال علي بن أبي طالب : يعني : طلوع الفجر ، أي تنوير الصبح ، يعني : إذا طلع الفجر ، كان وقت الهلاك . وروي عن عليّ رضي الله عنه أيضاً أنه قال : فار منه التنور وجرت منه السفينة ، أي مسجد الكوفة { قُلْنَا احمل فِيهَا } يعني : في السفينة { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } يعني : من كل صنفين { وَأَهْلَكَ } يعني : واحمل أهلك فيها معك { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } بالغرق ، يعني : سوى من قدرت عليه الشقاوة والكفر ، فلا تحمله ، يعني : امرأته الكافرة وابنه كنعان ، { وَمَنْ ءامَنَ } معه ، يعني : احمل في السفينة من آمن معك .

قال الفقيه : أخبرني الثقة ، بإسناده عن وهب بن منبه ، قال : أمر نوح بأن يحمل من كل زوجين اثنين ، فقال : رب كيف أصنع بالأسد والبقرة ؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب ؟ وكيف أصنع بالحمام والهرة ؟ قال : يا نوح من ألقى بينهم العداوة ؟ قال : أنت يا رب ، قال : فإني أؤلف بينهم حتى يتراضوا .

قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا الماسرخسي ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : كثر الفأر في السفينة ، حتى خافوا على حبال السفينة ، فأوحى الله تعالى إلى نوح ، أن امسح عن جبهة الأسد ، فمسحها فعطس ، فخرج منها سنوران ، فأكلا الفأر .

وكثرت العذرة في السفينة ، فشكوا إلى نوح ، فأوحى الله تعالى إلى نوح : أن امسح ذنب الفيل ، فمسحه فخرج خنزير ، فأكل العذرة . وفي خبر آخر فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة . قال الفقيه ، أبو الليث رحمه الله : في خبر وهب بن منبه دليل أن الهرة ، كانت من قبل . وفي هذا الخبر أن الهرة لم تكن من قبل ، والله أعلم بالصواب منهما .

وروي عن ابن عباس أنه قال : لما فار الماء من التنور ، فأرسل الله تعالى من السماء بمطر شديد ، فأقبلت الوحوش حتى أصابتها السماء إلى نوح ، وسخرت له فحمل في السفينة من كل طير زوجين ، ومن كل دابة زوجين ، ومن كل بهيمة زوجين ، ومن كل سبع زوجين ، يعني : الذكر والأنثى . فقال نوح : رب هذه الحية والعقرب ، كيف أصنع بهما ؟ فبعث الله تعالى جبريل ، فقطع فقار العقرب ، وضرب فم الحية . وكان نوح جعل للسفينة ثلاثة أبواب ، بعضها أسفل من بعض ، فجعل في الباب الأسفل : السباع والهوام ، وجعل في الباب الأوسط : البهائم والوحوش ، وجعل في الباب الأعلى : بني آدم من ذكر منهم .

فذلك قوله تعالى : { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال ابن عباس : هم ثمانون إنساناً ، وقال الأعمش في قوله : { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } كان نوح ، وثلاث بنين ، ونساؤهم . وقال مقاتل : كانوا أربعين رجلاً ، وأربعين امرأة . قرأ عاصم في رواية حفص : { مِن كُلّ } بالتنوين ، يعني : من كل شيء ، ثُمَّ قال { زَوْجَيْنِ } على وجه التفسير للكل ، وقرأ الباقون : { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ } بغير تنوين على معنى الإضافة .