فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

{ حتى إذا جاء أمرنا } حتى هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية وجعلت غاية لقوله { واصنع الفلك بأعيننا } وما بينهما اعتراض والمراد بالأمر العذاب أو وقته وهو واحد الأمور لا الأوامر ويصح أن يراد الثاني على معنى جاء أمرنا بركوب السفينة .

{ وفار التنور } أي على ، واختلف في تفسير التنور على أقوال ( الأول ) إنه وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض تنورا أو أشرف موضع فيها روى ذلك عن ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة .

( الثاني ) أنه تنور الخبز الذي يخبزون فيه ابتداء منه النبع على خلاف العادة وبه قال مجاهد وعطية والحسن وهو قول أكثر المفسرين قيل وهذا أولى لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه ( الثالث ) إنه موضع اجتماع الماء في السفينة وروى هذا عن الحسن . ( الرابع ) أنه طلوع الفجر من قولهم تنور الفجر ، روي ذلك عن علي ابن أبي طالب ( الخامس ) أنه مسجد الكوفة ، روي ذلك عن علي أيضا ومجاهد ، وقال مجاهد : كان ناحية التنور بالكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان الشعبي يحلف بالله أنه ما فار إلا من ناحية الكوفة . ( السادس ) أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة قاله قتادة ( السابع ) أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة وهي بالشام روي ذلك عن عكرمة ، وبه قال مقاتل ( الثامن ) أنه موضع بالهند قال ابن عباس : كان تنور آدم بالهند وكانت حواء تخبز فيه وصار إلى نوح .

قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض قال { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا } فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة هكذا ، قال : وفيه نظر فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء إلا إذا كان المراد مجرد العلامة كما ذكره آخرا .

وقد ذكر أهل اللغة أن الفور الغليان ، يقال فار الماء يفور فورا نبع وجرى وفارت القدر فورا من باب قال وفورانا غلت ، وعلى هذا لا تجوز في الآية إلا من حيث نسبة الفوران إلى التنور وهو اسم أعجمي عربته العرب ، وعلى هذا فلا اشتقاق له .

وقيل فارسي لا تعرف له العرب اسما غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون وقيل جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي ، وإنه مما اتفق عليه لغة العرب والعجم كالصابون ووزنه تفعول ويعزى هذا لثعلب وقيل فعول ويعزى لأبي علي الفارسي وقيل معنى فار التنور التمثيل بحضور العذاب كقولهم حمي الوطيس إذا اشتد الحرب وعلى هذا فهو كناية عن اشتداد الأمر .

وقيل كان من حجر لحواء فصار إلى نوح وقد روى في تفسير التنور غير هذا . ذكر ابن جرير وغيره عن الطوفان كان في ثالث عشر من أبيب رجب في شدة القيظ وكان الفوران علامة لنوح على مجيئه وركوب السفينة .

{ قلنا } يا نوح { احمل فيها } أي في السفينة { من كل زوجين } مما في الأرض من الحيوانات { اثنين } ذكرا وأنثى وقرئ من كل التنوين أي من كل شيء زوجين والزوجان للاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، ويطلق على كل واحد منهما زوج كما تقول للرجل زوج وللمرأة زوج وهو المراد هنا أي من كل فردين متزاوجين اثنين بأن تحمل من الطير ذكرا وأنثى ومن الغنم ذكرا وأنثى وهكذا تترك الباقي والمراد من الحيوانات التي تنفع والتي تلد أو تبيض ليخرج المضرات والتي تتوالد من العفونة والتراب كالدود والقمل والبق والبعوض فلم يحمل منه شيئا .

ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلا للفرد ، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ومنه قوله تعالى { وأنبتت من كل زوج بهيج } .

قال الرازي : وأما ما يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن ، وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق وأيضا فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح فالأولى ترك الخوض فيه 1ه .

{ و } احمل { أهلك } والمراد امرأته المؤمنة وبنوه ونساؤهم { إلا من سبق عليه القول } أي من تقدم الحكم عليه أنه من المغرقين في عمله أو في قوله { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } على الاختلاف الشائع فيهم ، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة أحمل فيها وأهلك ومن قال المراد بهم ولده كنعان وامرأته الكافرة واعلة أم كنعان جعل الاستثناء من أهلك ويكون متصلا إن أريد بالأهل ما هو أعم من المسلم والكافر منهم ، ومنقطعا إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط .

و { } احمل { من آمن } من قومك في السفينة وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم أو للاستثناء منهم على القول الآخر .

ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به فقال { وما آمن معه إلا قليل } واعتبار المعية في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقر الأمان والنجاة قيل كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم وبه قال قتادة وابن جرير ومحمد ابن كعب القرظي ، وقيل كانوا ثمانين رجلا أحدهم جرهم ، قاله ابن عباس . قال الخفاجي : وهي الرواية الصحيحة 1ه .

ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين وهي موجودة بناحية الموصل وقيل سبعة نوح وبنوه وثلاث كنائن له ، قاله الأعمش قال الخفاجي : ويرده عطف من آمن إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه ثبت بهذا المعنى وهو خلاف الظاهر وقيل كانوا تسعة وسبعين : زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم .

وعن ابن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة ، وقيل غير ذلك قال الطبري : والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال عز وجل { وما آمن معه إلا قليل } ولم يحد عددا بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذا لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .