{ الر كتاب } مبتدأ وخبر أو { كتاب } خبر مبتدأ محذوف . { أُحكمت آياته } نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى ، أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ ، أو أحكمت بالحجج والدلائل أو جعلت حكمية منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية . { ثم فصّلت } بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار ، أو بجعلها سوراً أو بالإنزال نجما نجما ، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه . وقرئ { ثم فصّلت } أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته { ثم فصلت } على البناء للمتكلم ، و{ ثم } للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار . { من لدُن حكيم خبير } صفة أخرى ل { كتاب } ، أو خبر بعد خبر أو صلة ل { أحكمت } أو { فصلت } ، وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر أمره وما خفي .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة هود عليه السلام{[1]}
هذه سورة مكية إلا قوله تعالى ' فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ' وقوله ' أولئك يؤمنون به ' ونزلت في ابن سلام وأصحابه وقوله «إن الحسنات يذهبن السيئات »{[2]} نزلت في شأن الثمار . وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل{[3]} على أن الأولى تشبه المكي . وإذا أردت بهود اسم السورة لم ينصرف ، كما تفعل إذا سميت امرأة ب ( عمرو ) و( زيد ) وإذا أردت سورة هود صرفت{[4]} .
تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتختص هذه بأن قيل : إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] وفي { ن والقلم } [ القلم : 1 ] .
و { كتاب } مرتفع على خبر الابتداء ، فمن قال : الحروف إشارة إلى حروف المعجم ، كانت الحروف المبتدأ ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ «هذا كتاب » ؛ والمراد بالكتاب القرآن .
و { أحكمت } معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد صلى الله عليه وسلم في أزمنة مختلفة ف { ثم } على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك . وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب ؛ وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : { فصلت } معناه فسرت ، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير - فيما روي عنه - : «ثم فَصَلَت » بفتح الفاء والصاد واللام ، ويحتمل ذلك معنيين : أحدهما : «فَصَلَت » أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى ، والثاني فَصَلَت بين المحق والمبطل من الناس .
و { من لدن } معناها من حيث ابتدئت الغاية ، كذا قال سيبويه وفيها لغات : يقال : لدُن ولدْن بسكون الدال وقرىء بهما . { من لدن } ، ويقال : «لَدُ » : بفتح اللام وضم الدال دون نون ، ويقال «لدا » بدال منونة مقصورة . ويقال «لَدٍ » بدال مكسورة منونة ، حكى ذلك أبو عبيدة .
سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود ، ولا يعرف لها اسم غير ذلك ، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال : يا رسول الله قد شبت ، قال : شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت . رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة . وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض .
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات ، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها ، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله { ألا بعدا لعاد قوم هود } ، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب{ ألر } .
وهي مكية كلها عند الجمهور . وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير ، وقتادة إلا آية واحدة وهي { وأقم الصلاة طرفي النهار إلى قوله للذاكرين } . وقال ابن عطية : هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة . وهي قوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } ، وقوله { أفمن كان على بينة من ربه } إلى قوله { أولئك يؤمنون به } قيل نزلت في عبد الله بن سلام ، وقوله { وأقم الصلاة طرفي النهار } الآية . قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي ، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي ، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية .
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف . وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور . ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة ، وسيأتي بيان هذا .
وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير . وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين ، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون .
وأغراضها : ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة .
وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى .
وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى .
والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس .
وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض .
وأن مرجع الناس إليه ، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } .
وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة .
وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين .
وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود ، وإبراهيم ، وقوم لوط ، ومدين ، ورسالة موسى ، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونهم .
وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم .
وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك .
وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه .
ثم عرض باستئناس النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين ، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح .
تقدم القول على الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وغيرها من نظرائها وما سورة يونس ببعيد .
{ كتاب أحكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }
القول في الافتتاح بقوله : { كتاب } وتنكيره مماثل لما في قوله : { كتاب أنزل إليك } في سورة [ الأعراف : 2 ] .
والمعنى : أن القرآن كتاب من عند الله فلماذا يَعجب المشركون من ذلك ويكذبون به . ف ( كتاب ) مبتدأ ، سوغ الابتداء ما فيه من التنكير للنوعية .
ومن لدن حكيم خبير } خبَر و { أحكمت آياته } صفة ل ( كتاب ) ، ولك أن تجعل { أحكمت آياته } صفة مخصصة ، وهي مسوغ الابتداء . ولك أن تجعل ( أحكمت ) هو الخبر . وتجعل { من لدن حكيم خبير } ظرفاً لغواً متعلقاً ب { أحكمت } و { فُصلت } .
والإحكام : إتقان الصنع ، مشتق من الحِكْمة بكسر الحاء وسكون الكاف . وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرض لنوعها ، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ . وتقدم عند قوله تعالى : { منه آيات محكمات } في أول سورة [ آل عمران : 7 ] . وبهذا المعنى تنبىء المقابلة بقوله : { من لدن حكيم } .
وآيات القرآن : الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل . وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } في أوائل سورة [ البقرة : 39 ] ، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .
والتفصيل : التوضيح والبيان . وهو مشتق من الفَصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه ، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة [ الأنعام : 55 ] .
ونظيره : الفرق ، كنى به عن البيان فسمي القرآن فُرقاناً . وعن الفصل فسمي يوم بَدر يوم الفرقان ، ومنه في ذكر ليلة القدر { فيها يُفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] .
و ( ثُم ) للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح .
و { من لدن حكيم خبير } أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته ، وإيضاح التبيين لقوة علمه . والخبير : العالم بخفايا الأشياء ، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز ، فالحكيم مقابل ل { أحْكمتْ } ، والخبير مقابل ل { فُصّلتْ } . وهما وإن كانا متعلّق العلم ومتعلّق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم ، إلا أنه روعي في المقابلة الفعلُ الذي هو أثرُ إحدى الصفتين أشدُّ تبادُراً فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة .