أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } نصب بما في لهم من معنى الفعل ، أو بإضمار اذكر . وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه . وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه ، وأهل الباطل بأضداد ذلك . { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } على إرادة القول أي فيقال لهم أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم ، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، أو جميع الكفار كفروا بعدما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات . { فذوقوا العذاب } أمر إهانة . { بما كنتم تكفرون } بسبب كفركم أو جزاء لكفركم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

والعامل في قوله { يوم } الفعل الذي تتعلق به اللام ، وفي قوله { ولهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] قال الزجاج : تقديره ويثبت لهم عذاب عظيم .

قال القاضي : وذلك ضعيف من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب ، لأنه مصدر قد وصف ، «وبياض الوجوه » : عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله ، قال الزجّاج -وغيره- : ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام ، ( أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء ) {[3404]} ، وأما «سواد الوجوه » ، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغم العذاب ، ويحتمل أن يكون ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً وهذه أقبح طلعة ، ومن ذلك قول بشار : [ البسيط ]

وَلِلْبَخِيلِ عَلى أَمْوالِهِ عِلَلٌ . . . زُرْقٌ العُيونِ عَلَيْها أَوْجُةٌ سُودُ{[3405]}

وقرأ يحيى بن وثاب ، «تِبيض وتِسود » بكسر التاء ، وقرأ الزهري ، «تبياض » وجوه ، «وتسواد » وجوه بألف ، وهي لغة ، ولما كان صدر هذه الآية ، إخباراً عن حال لا تخص أحداً معيناً ، بدىء بذكر البياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى ، فلما فهم المعنى ، وتعين له «الكفار والمؤمنون » ، بدىء بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم ، وقوله تعالى : { أكفرتم } تقرير وتوبيخ ، متعلق بمحذوف ، تقديره : فيقال لهم : أكفرتم ؟ وفي هذا المحذوف هو جواب «أما » ، وهذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغنى المعنى عنه ، كقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة }{[3406]} المعنى فأفطر فعدة وقوله تعالى : { بعد إيمانكم } يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيماناً متقدماً ، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم ، فقال أبي بن كعب : الموقفون جميع الكفار ، والإيمان الذي قيل لهم بسببه { بعد إيمانكم } هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم { ألست بربكم ؟ قالوا بلى }{[3407]} وقال أكثر المتأولين : إنما عني بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة ، ثم اختلفوا ، فقال الحسن : الآية في المنافقين ، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم ، فيقال لهم : { أكفرتم بعد إيمانكم } ؟ أي ذلك الإيمان بألسنتهم ، وقال السدي : هي فيمن كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا ، وقال أبو أمامة{[3408]} : الآية في الخوارج وقال قتادة : الآية في أهل الردة ، ومنه الحديث : ليردن عليَّ الحوض رجال من أصحابي حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : فسحقاً فسحقاً{[3409]} ، وفي بعض طرقه : فأناديهم : ألا هلم ، ألا هلم ، وذكر النحاس قولاً : إن الآية في اليهود ، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به ، فلما جاءهم من غيرهم كفروا ، فهذا كفر بعد إيمان ، وروي عن مالك أنه قال : الآية في أهل الأهواء .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

إن كان هذا ففي المختلجين{[3410]} منهم القائلين ما هو كفر ، وروي حديث : أن الآية في القدرية{[3411]} وقال أبو أمامة : سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنها في الحرورية{[3412]} ، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد ، وما في قوله { بما كنتم } مصدرية .


[3404]:- أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة. (الجامع الصغير: 1/365)
[3405]:- هو بشار بن برد، أبو معاذ، لقبه المرعث، ولد بالبصرة ونشأ في بني عقيل مولعا بالاختلاف إلى الأعراب فشب فصيح اللسان صحيح البيان، كان يعيش في ظلال الشعر، ولد أكمه، وكان هجاء يتغزل بالنساء، ويهتك ستر الحشمة حتى نقم الناس منه وتمنوا موته فأمر المهدي العباسي صاحب شرطته أن يضربه بالسوط فضربه حتى مات سنة: 167 هـ وقد أوفى على السبعين "الأغاني 3/129" والبيت من قطعة يهجو بها العباس بن محمد العباسي. والعلل: المعاذير الذي يبديها البخيل ليصرف العفاة، وسميت عللا لأنها يبرهن بها على وجه منع العطاء. وشبه بشار هذه العلل بحرّاس يتخذها البخيل على أمواله على طريق المكنية وأثبت لها أعينا زرقا ووجوها سودا على طريقة التخييل. والمقصود من البيت: التشنيع وعلامة الشر، فقوله: "زرق العيون" تشويه وتوسيم بالشر (تعليق الشيخ الطاهر بن عاشور 3/128 على ديوان بشار).
[3406]:- من الآية (184) من سورة البقرة.
[3407]:- من الآية (172) من سورة الأعراف.
[3408]:- هو صدي بن عجلان بن الحارث الباهلي، مشهور بكنيته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من الصحابة، وروى عنه جماعة منهم مكحول وشهر بن حوشب، سكن الشام وتوفي سنة 86هـ. "الإصابة 2/182".
[3409]:- أخرجه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، عن أنس وعن حذيفة. "الجامع الصغير 2/386".
[3410]:- المختلج: هو الذي نقل عن قومه ونسبه فيهم إلى قوم آخرين، اختلج الشيء انتزعه.
[3411]:- الحديث المشار إليه: هو حديث أبي أمامة الباهلي، وقد أخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق عكرمة، وكذا الحاكم. وقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وعبد الرزاق وإسحاق والطبراني وأبو يعلى، كلهم من طريق أبي غالب. "تعليق الكشاف لابن حجر 1/399 ط: 1" وابن كثير في تفسيره 1/390". والقدرية: قوم يجحدون القدر، أو ينسبون إلى التكذيب بما قدر الله من الأشياء وينقسمون إلى اثنتي عشرة فرقة.
[3412]:- الحرورية: فرقة من الخوراج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، تنسب إلى موضع بظاهر الكوفة يقال له حروراء، وتنقسم إلى اثنتي عشرة فرقة أيضا.