أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

{ لن تنالوا البر } أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير ، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة . { حتى تنفقوا مما تحبون } أي من المال ، أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس ، والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله . روي ( أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء فضعها حيث أراك الله ، فقال : بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين . وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال : زيد إنما أردت أن أتصدق بها فقال عليه السلام : إن الله قد قبلها منك ) . وذلك يدل على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل ، وأن الآية تعم الإنفاق الواجب والمستحب . وقرئ " بعض ما تحبون " وهو يدل على أن من للتبعيض ويحتمل التبيين . { وما تنفقوا من شيء } أي من أي شيء محبوب أو غيره ومن لبيان ما . { فإن الله به عليم } فيجازيكم بحسبه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } ( 92 )

ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض ، من حيث أخبر تعالى : أنه لا يقبل من الموافي على الكفر { ملء الأرض ذهباً } [ آل عمران : 91 ] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير ، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه ، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام ، بتحريم ما كان يحب على نفسه ، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب ، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات ، على أنها معان منحازة ، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم ، وقوله تعالى { لن تناولوا } الآية ، خطاب لجميع المؤمنين ، وقال السدي وعمر بن ميمون{[3319]} : { البر } الجنة .

قال الفقيه الإمام : وهذا تفسير بالمعنى ، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من أفاعيل الخير ، فتحتمل الآية أن يريد : لن تنالوا بر الله تعالى بكم ، أي رحمته ولطفه ، ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً ، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم ، وبسبب نزول هذه الآية ، تصدق أبو طلحة{[3320]} بحائطه ، المسمى بيرحاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه{[3321]} ، فكأن زيداً شق عليه فقال له النبي : أما إن الله قد قبل صدقتك{[3322]} ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى علي يدي سعيد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوماً وقال : إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، فأعتقها .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى : { مما تحبون } أي من رغائب الأموال التي يضن بها ، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ){[3323]} - الحديث - وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية ، فكان عبد الله بن عمر ، يشتهي أكل السكر باللوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت جميع الطاعات ، وجدتها إنفاقاً مما يحب الإنسان ، إما من ماله ، وإما من صحته ، وإما من دعته وترفهه ، وهذه كلها محبوبات ، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه ، أي الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصدقة شيء عجيب ، فقال له الرجل : أراك تركت شيئاً وهو أوثقها في نفسي الصيام ، فقال أبو ذر : قربة وليس هناك ، ثم تلا { لن تنالوا البر } الآية ، وقوله تعالى { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } شرط وجواب فيه وعد ، أي عليم مجاز به وإن قل .


[3319]:- هو عمرو بن ميمون الأزدي، أبو عبد الله أو أبو يحيى الكوفي، أدرك الجاهلية، وأسلم في حياته صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، روى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بم جبل، وعائشة، وغيرهم، وروى عنه سعيد بن جبير، والربيع بن خيثم، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، كان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد فرؤى ذكر الله، توفي سنة 84 وقيل: 75هـ. "الإصابة 3/118" و"تهذيب التهذيب".
[3320]:- هو أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته، وهو القائل: أنا أبو طلحة واسمي زيد وكل يوم في سلاحي صيد كان من فضلاء الصحابة، وهو زوج أم سليم، شهد بدرا، وروى عنه من الصحابة ابن عباس، وأنس، وزيد بن خالد، حكي أنه كان يبغي الصوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمنعه الغزو، فلما توفي صلى الله عليه وسلم أصبح يسرد الصوم لا يفطر إلا يوم عيد الفطر أو الأضحى. اختلف في وفاته. "الإصابة.1: 566".
[3321]:- أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي الحب بن الحب، يكنى أبا محمد، ويقال: أبو زيد، أمه أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولد أسامة في الإسلام، ومات صلى الله عليه وسلم وله عشرون سنة، وقيل: ثماني عشرة، وكان أمره على جيش عظيم فمات صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجه فأنفذه أبو بكر، وكان عمر يجله ويُكرمه، اعتزل الفتن بعد مقتل عثمان إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية بالمدينة، روى عنه من الصحابة أبو هريرة، وابن عباس،ومن كبار التابعين أبو عثمان النهدي، وأبو وائل، وآخرون (الإصابة)
[3322]:- أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن جرير. (فتح القدير: 1/329-.
[3323]:- أخرجه البخاري في كتاب "الزكاة" باب "أي الصدقة أفضل" وفي "الوصايا"، وأخرجه مسلم، والنسائي كذلك في "الزكاة"