نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ} (2)

ولما أوقع سبحانه الإخبار بهلاكه على هذا الوجه المؤكد لما كان لصاحب القصة وغيره من الكفار من التكذيب بلسان حاله وقاله لما له من المال والولد ، وما هو فيه من القوة بالعَدد والعُدد ، زاد الأمر تحققاً إعلاماً بأن الأحوال الدنيوية لا غناء لها ، فقال مخبراً ، أو مستفهماً منكراً : { ما أغنى } أي أجزى وناب وسد { عنه } أي عن أبي لهب الشقي الطريد المبعود عن الرحمة مع العذاب . { ماله } أي الكثير الذي جرت العادة بأنه ينجي من الهلاك .

ولما كان الكسب أعم من المال ، وكان المال قد يكسب منافع هي أعظم منه من الجاه وغيره ، وكان الإنسان قد يكون فائزاً ، ولا مال له بأمور أثلها بسعيه خارجة عن المال ، قال مفيداً لذلك ، مبيناً أنه لا ينفع إلا ما أمر الله به { وما كسب * } ، أي وإن كان ذلك على وجه هائل من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يرضيها باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في المحافل يؤذيه ويكذبه ، وينهى الناس عن تصديقه ، مع أنه كان قبل ذلك يناديه بالصادق الأمين ، وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك " ، فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لا بد أن تدركه ، فلما حان الأمر ، وكان قد آن ما أراد صاحب العز الشامخ ، سبب له أن سافر إلى الشام فأوصى به أبوه الرفاق لينجوه رغم هذه الدعوة ، فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم ، والحمول محيطة به ، وهم محيطون بها ، والركاب محيطة بهم ، فلم ينفعه ذلك ؛ بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه ، فاقتلع رأسه ، ولم ينفع أباه ذلك ؛ بل استمر على ضلاله لما سبق في علم الله تعالى ، حتى كانت وقعة بدر ، فلم يخرج فيها ، فلما جاء الفلال كان منهم ابن أخيه أبو سفيان بن الحارث فقال : هلم يا ابن أخي ، فعندك الخبر ، فقال : نعم ! فوالله ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يفتلونها كيف شاؤوا ، ويأسروننا كيف شاؤوا ، ومع ذلك ، والله مللت الناس ، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ، ما تليق شيئاً - أي ما تبقيه - ، ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع غلام العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه- وكان جالساً في حجرة في المسجد يبري نبلاً- وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وكنا نكتم إسلامنا ، فما ملكت نفسي أن قلت : تلك والله الملائكة ، قال : فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، قال : وثاورته ، فاحتملني فضرب بي الأرض ، ثم برك عليّ يضربني ، وكنت رجلاً ضعيفاً ، فقامت أم الفضل - يعني سيدته - زوجة العباس رضي الله عنها إلى عمود الحجرة - أي الخيمة - فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة ، وقالت : استضعفته أي عدو الله إن غاب عنه سيده ، فقام مولياً ذليلاً ، فوالله ما عاش إلا سبع ليال أو ستاً حتى رماه الله بالعدسة فقتله ، وما نفعه إبعاده عن الخطر بتخلفه عن بدر ، والعدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل غالباً ، قال القزاز : كانت تعدي في الجاهلية ، قلما يسلم منها أحد ، تقول : عدس الرجل فهو معدوس ، كما تقول : طعن فهو مطعون إذا أصابه الطاعون . انتهى . ولأجل تشاؤم العرب بها ترك أبو لهب من غير دفن ثلاثاً ، حتى أنتن ، ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه ، ويقال : إنهم حفروا له حفرة بعيدة عنه من شدة نتنه ، ثم دفعوه بخشب طوال حتى رموه فيها ، ورجموه بالحجارة والتراب من بعيد حتى طموه ، فكان ذلك سنة في رجمه ، فهو يرجم إلى الآن ، وذلك من أول إعجاز هذه الآيات أن كان سبة في العرب دون أن يغني عنه شيء مما يظن أنه يغني عنه .