نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة ، لأن للتمثيل بها شأناًعظيماً في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى { مثلهم{[765]} } أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها { كمثل الذي استوقد ناراً }{[766]} أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها ، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها ، فوقدت وأنارت .

{ فلما أضاءت } أي{[767]} النار ، وأفرد الضمير باعتبار لفظ " الذي " فقال : { ما حوله } وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد ، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد { ذهب الله } الذي له كمال العلم والقدرة ، وجمع الضمير نظراً إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفرده تقليلاً للنور وإن كان قوياً في أوله لانطفائه في آخره فقال : { بنورهم }{[768]} أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه ؛ ولم يقل : بضوئهم ، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط ، لأن الضوء أعظم من مطلق النور

{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً }{[769]} [ يونس : 5 ] فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرّها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور ، وعبر{[770]} بالإضاءة أولاً إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم ، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين{[771]} الصادق من الكاذب ، وعبر بالذهاب به{[772]} دون إذهابه ليدل نصاً على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك{[773]} بالتعبير عن صيّر بترك{[774]} فقال : { وتركهم في ظلمات } أي بالضلالة{[775]} من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ{[776]} فيها بصر ، فلذا كانت نتيجته { لا يبصرون }{[777]} أي لا إبصار لهم أصلاً{[778]} ببصر ولا بصيرة . {[779]}


[765]:لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر
[766]:والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق، واشتقاقها من نار إذا نفر، لأن فيها حركة واضطرابا، ووقود النار سطوعها.
[767]:قال النسفي: الإضاءة فرط الإنارة ومصدافه قوله تعالى "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا" وهي في الآية متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى.
[768]:ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به والمعنى أخذ الله بنورهم وأمسكه "وما يمسك فلا مرسل له" فكان أبلغ من الإذهاب والنور ضوء النار وضوء كل منير، والمراد إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف ذكر عقبيه "وتركهم في ظلمات لا يبصرون"
[769]:سورة 10 آية 5
[770]:في مد: غير - كذا
[771]:في ظ: ليتميز
[772]:ليس في م
[773]:ليس في م
[774]:ليس في م
[775]:زيد في ظ: أي
[776]:في الأصل: لا ينفذ – كذا بالدال المهملة
[777]:قال الشربيني الخطيب: لا يبصرون ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين، فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية كيف جمع الظلمة وكيف نطرها وكيف اتبعها بما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله "لا يبصرون" وظلماتهم ظلمة الكفر وظلمة النفاق وظلمة يوم القيامة "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم".
[778]:في م/ ولا بصيرة لهم أصلا ولا بصيرة
[779]:في م: ولا بصيرة لهم أصلا ولا بصيرة