نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ فَرِحُواْ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ إِذَا هُمۡ يَقۡنَطُونَ} (36)

ولما بان بهذين المتعادلين أنه لم يضطرهم إلى الإشراك عرفٌ في أنفسهم مستمر دائم ، ولا دليل عقلي ظاهر ، ولا أمر من الله قاهر ، فبان أنهم لم يتبعوا عقلاً ولا نقلاً ، بل هم أسرى{[53118]} الهوى المبني على محض الجهل ، وكان{[53119]} قد صرح بذلك عقب العديل{[53120]} الأول ، لمح هنا ، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه ، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة ، والدلالة الشهودية المستقرة ، فقال عاطفاً على { وإذا مس } دالاً على خفة أحلامهم{[53121]} من وجه آخر غير الأول : { وإذا } معبراً بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة ، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال : { أذقنا } وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال{[53122]} : { الناس رحمة } أي نعمة من غنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا { فرحوا بها } أي فرح مطمئن بطر آمن من{[53123]} زوالها ، ناسين شكر من أنعم بها ، وقال : { وإن } بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجوداً ، وقال : { تصبهم } غير مسند لها إليه تأديباً لعباده{[53124]} وإعلاماً بغزير كرمه { سيئة } أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه .

ولما كانت المصائب مسببة عن الذنوب ، قال منبهاً لهم على ذلك منكراً قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها : { بما قدمت أيديهم } أي من المخالفات ، مسنداً له إلى اليد لأن أكثر العمل بها { إذا هم } أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا{[53125]} بها ما{[53126]} خولوا فيه من النعم وجملوا به من ملابس الكرم { يقنطون* } أي فاجاؤوا اليأس ، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها{[53127]} وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه{[53128]} لصرفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكرراً ،


[53118]:من م، وفي الأصل وظ: أسر.
[53119]:زيد من ظ وم.
[53120]:من م، وفي الأصل وظ: الدليل.
[53121]:في ظ: أخلاقهم.
[53122]:زيد من ظ.
[53123]:زيد من م.
[53124]:من ظ وم، وفي الأصل: للعباد.
[53125]:من ظ وم، وفي الأصل: نسبوا.
[53126]:زيد من ظ وم.
[53127]:في م: بروكها.
[53128]:في ظ: يستغيثونه.