نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه اختصاصاً عن الجليس{[63316]} بالمقال فينشأ عنه ظن الكدر وتباعد القلوب ، أتبعه الاختصاص بالمجلس{[63317]} الذي هو مباعدة الأجسام اللازم لها من الظن ما لزم من الاختصاص بالسر في الكلام فينشأ عنه الحزن ، معلماً لهم بكمال رحمته وتمام رأفته بمراعاة حسن الأدب{[63318]} بينهم وإن كان من أمور العادة دون أحكام العبادة ، فقال مخاطباً لأهل الدرجة الدنيا في الإيمان لأنهم المحتاجون لمثل هذا الأدب : { يا أيها الذين آمنوا } حداهم بهذا الوصف على الامتثال ، { إذا قيل لكم } أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته :{ تفسحوا } أي توسعوا{[63319]} أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع { في المجلس } أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه ، والمراد بالمجلس جنس{[63320]} المكان الذي هم ماكثون به بجلوس{[63321]} أو قيام في صلاة أو غيرها لأنه أهل لأن يجلس فيه . وذلك في كل عصر ، ومجلس النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك ، وقراءة عاصم{[63322]} بالجمع موضحة لإرادة الجنس { فافسحوا } أي وسعوا فيه عن سعة صدر { يفسح الله } أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة { لكم } في كل ما تكرهون ضيقه{[63323]} من الدارين .

ولما كانت{[63324]} التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة ، وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول{[63325]} من مكان إلى آخر قال : { وإذا قيل } أيّ من قائل كان - كما مضى - إذا{[63326]} كان يريد الإصلاح و{[63327]}الخير { انشزوا } أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة أو الجهاد وغيرهما { فانشزوا } أي{[63328]} فارتفعوا وانهضوا ، { يرفع الله } الذي له جميع صفات الكمال ، عبر بالجلالة وأعاد{[63329]} إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف { الذين آمنوا } وإن كانوا غير علماء ، { منكم } أيها المأمورون بالتفسح{[63330]} السامعون للأوامر ، المبادرون إليها{[63331]} في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم .

ولما كان المؤمن قد لا يكون{[63332]} من المشهورين{[63333]} بالعلم قال :{ والذين } ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين ، بنى للمفعول قوله :{ أوتوا العلم } أي وهم مؤمنون { درجات } ، درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان ، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم {[63334]} .

- روى الطبراني{[63335]} وأبو نعيم في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جاءه أجله{[63336]} وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة " ، رواه الدارمي{[63337]} وابن السني في رياضة المتعلمين عن الحسن غير منسوب ، قال شيخنا : فقيل : هو البصري فيكون مرسلاً ، وعن الزبير : العلم ذكر فلا يحبه{[63338]} إلا ذكور{[63339]} الرجال .

وكلما كان الإنسان أعلم كان أذكر{[63340]} ، ولعله ترك التقييد ب " من " في هذا وإن كانت مرادة{[63341]} ليفهم أن العلم يعلي صاحبه مطلقاً ، فإن كان مؤمناً عاملاً بعلمه كان النهاية ، وإن كان عاصياً كان أرفع من مؤمن عاص وعار عن العلم ، وإن كان كافراً كانت رفعته دنيوية بالنسبة إلى كافر لا يعلم ، ودل على ذلك بختم الآية بقوله مرغباً مرهباً : { والله } أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { بما تعملون } أي حال الأمر وغيره { خبير * } أي عالم بظاهره وباطنه ، فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن{[63342]} كانت الرفعة على حسبه ، وإن كان{[63343]} على غير ذلك فكذلك ، {[63344]}وقدم الجار ومدخوله وإن كان علمه سبحانه بالأشياء كلها على حد سواء تنبيهاً على مزيد الاعتناء بالأعمال{[63345]} ، لا سيما الباطنة من الإيمان والعلم اللذين هما الروح الأعظم ، لأن المقام لنزول الإنسان عن مكانه{[63346]} بالتفسح والانخفاض والارتفاع ، ولا يخفى ما في ذلك من حظ النفس الحامل على الجري مع الدسائس ، فكان جديراً بمزيد الترهيب ، وسبب الآية أن أهل العلم لما كانوا أحق بصدر المجلس لأنهم أوعى لما يقول صاحب المجلس ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليليني أولو الأحلام منكم والنهى {[63347]} " ، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر{[63348]} من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبق غيرهم إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع{[63349]} لهم فلم يفعلوا فقال لمن حوله من غير{[63350]} أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر القادمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل ، فوالله ما عدل على هؤلاء ، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مكانهم ، فأنزل الله هذه الآية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يقيم الرجل الرجل{[63351]} من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم " رواه مسلم{[63352]} عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال الحسن{[63353]} : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين فصف{[63354]} أصحابه رضي الله عنهم للقتال تشاحوا{[63355]} على الصف الأول فيقول الرجل لإخوانه : توسعوا لنلقى العدو فنصيب الشهادة ، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي دالة على {[63356]}أن الصالح{[63357]} إن كره مجاورة فاسق منع من مجاورته لأنه يؤذيه ويشغله عن كثير من مهماته ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " وقال : " أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول " وقال : " شر الناس من لا يآمن جاره بوائقه " فقال{[63358]} تعالى معظماً لرسوله صلى الله عليه وسلم وناهياً عن إبرامه صلى الله عليه وسلم بالسؤال والمناجاة ، ونافعاً للفقراء والتمييز{[63359]} بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ،


[63316]:من ظ وم، وفي الأصل: الحس بالكلام و.
[63317]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالمجن.
[63318]:- في ظ: الآداب.
[63319]:- من ظ وم، وفي الأصل: اتسعوا.
[63320]:- من ظ وم، وفي الأصل: حلس.
[63321]:- من ظ وم، وفي الأصل: في جلوس.
[63322]:- راجع نثر المرجان 7/ 253.
[63323]:- من م، وفي الأصل وظ: ضغة.
[63324]:- من ظ، وفي الأصل وم: كان.
[63325]:- من ظ وم، وفي الأصل: المتحول.
[63326]:- من م، وفي الأصل وظ: إن.
[63327]:- من ظ وم، وفي الأصل: أو.
[63328]:- زيد من ظ وم.
[63329]:- من ظ وم، وفي الأصل: أراد.
[63330]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالتوسع.
[63331]:- زيد في الأصل: بالامتثال، ولم تكن الزيادة في ظ وم.
[63332]:- من ظ، وفي الأصل وم: مشهورا.
[63333]:- من ظ، وفي الأصل وم: مشهورا.
[63334]:- زيد في الأصل: انتهى، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[63335]:- راجع مجمع الزوائد 1/ 123.
[63336]:- من ظ وم، وفي الأصل: أخوه- كذا.
[63337]:- راجع السنن ص: 55.
[63338]:- من ظ وم، وفي الأصل: فلا يحييه.
[63339]:- من ظ، وفي الأصل وم: ذكورة.
[63340]:- في ظ: آشد الرجال في الذكورة وأفضلهم.
[63341]:- من ظ وم، وفي الأصل: موافقة.
[63342]:- من ظ وم، وفي الأصل: البواطن.
[63343]:- من ظ وم، وفي الأصل: كانت.
[63344]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63345]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63346]:- زيدت بعده في الأصل: ومقامه، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63347]:- والحديث من الشهرة بحيث يغنينا عن التعليق عليه.
[63348]:- راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 7/ 42.
[63349]:- من ظ وم، وفي الأصل: يوسعوا.
[63350]:- زيد من ظ وم.
[63351]:- زيد من ظ وم.
[63352]:- في الصحيح 2/ 217.
[63353]:- ذكره البغوي عن الحسن وغيره في المعالم بهامش اللباب 7/ 43.
[63354]:- من م، وفي الأصل وظ: يصف.
[63355]:- من م، وفي الأصل وظ: قساحوا-كذا
[63356]:- من ظ وم، وفي الأصل: الصلح.
[63357]:- من ظ وم، وفي الأصل: الصلح.
[63358]:- من م، وفي الأصل وظ: وقال.
[63359]:- من ظ وم، وفي الأصل: تميزوا.