التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا} (96)

زبر الحديد : قطع الحديد .

بين الصدفين : بين الطرفين المتقابلين ، وقيل بين الجبلين .

قال انفخوا : كناية عن طلب إحماء الحديد في النار .

قطرا : النحاس الذائب أو القطران أو الزفت الذائب وهذا هو الأرجح .

{ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا83 إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا 84 فأتبع 1 سببا85 حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة 2 ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا 86 قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا 87 وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا 88 ثم أتبع سببا 89 حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا3 90 كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا4 91 ثم أتبع سببا 92 حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا 93 قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا 5 على أن تجعل بيننا وبينهم سدا 94 قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما 95 آتوني زبر الحديد6 حتى إذا ساوى بين الصدفين7 قال انفخوا8 حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا9 96 فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا 97 قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا 98 وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض 10 ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا 99 وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا 100 الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا101 } [ 83-101 ] .

تعليقات على قصة ذي القرنين

ويأجوج ومأجوج وتليقناتها

هذا فصل في قصة ذي القرنين ، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم . وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين ، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة ، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته .

وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر ، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون .

والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال .

ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية ، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ 85 ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم . وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها . وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة . وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود . وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة .

ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه : ( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي . فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا . قال : ( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم . كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية ، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن ، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض ، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا ، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم ، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء ، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج . ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم ) . . . والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة . وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال . وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا . ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه . ولقد أورده ابن كثير ، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة ، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات .

وإلى هذا ، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة . وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل . وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين . وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال . وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه . ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة .

ولقد احتوت كتب التفسير {[1331]} بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين ، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين . وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض ، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة . وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل .

ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل ، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح . أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي ، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية ، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس . أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر ، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة ، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :

قد كان ذو القرنين جدي مسلما *** ملكا علا في الأرض غير مفند

بلغ المشارق والمغارب يبتغي *** أسباب ملك من كريم مرشد

فرأى مآب الشمس عند غروبها *** في عين ذي خلب وثأطة حرمد

وأن عمره بلغ ألفا وثلاثين سنة وكان وزيره الخضر صاحب موسى ، وقد دخل معه في الظلمة حينما أراد أن يكتشف عين الحياة فاهتدى الخضر إليها دونه فشرب واغتسل منها فكتبت له الحياة إلى آخر الزمان ! .

ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم ، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها ، أو لأنه ملك الروم والفرس ، أو لأنه دخل النور والظلمة ، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس ، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان ، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس ! .

ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار ، أو معرّبتان ، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا . وأنهم 22 قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم . وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة . ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد . وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( 120 ) ذراعا في السماء . وصنف عرضه وطوله سواء ( 120 ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد . وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي . ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى . ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم . ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه . وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب ، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه . وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها . وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب ، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد . ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين ، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك ، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل .

وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج . فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك ، . وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء ، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى والكافرين بالشدة والعذاب .

ومما رووه في سياق الآية [ 86 ] أنه كان لمدينة القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس اثنا عشر ألف باب وكان اسمها مريحا ويسكنها قوم من نسل ثمود ، ولولا ضجيجهم لسمع وجيب الشمس حين تغرب من شدة قربهم من مغربها . وأن ابن عباس اختلف مع معاوية في قراءة { عين حمئة } [ 81 ] حيث كان الأول يقرأها ( عين حمئة ) بمعنى طينة سوداء والثاني يقرأها ( عين حامية ) بمعنى عين ماء حار ، وأنهما اتفقا على تحكيم كعب الأحبار فأرسلا إليه يسألانه كيف يجد الشمس تغرب في التوراة ؟ فقال لهم : إنها تغرب في طينة سوداء ، فوافق بذلك ابن عباس ! ورووا في سياق الآية [ 88 ] أنه لم يكن بين القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر على أرضهم بناء فإذا طلعت الشمس نزلوا إلى الماء أو اندسوا في سراديب في الأرض حتى تزول فيخرجون إلى معايشهم وأنهم من نسل مؤمني قوم هود وأن اسم مدينتهم مرقيسا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج .

وواضح أن معظم الأقوال جزاف لا تتسم بآية سمة علمية وتاريخية عدا ما يشبه اسم وتاريخ الاسكندر المكدوني المعروف باستثناء خرافة عمره ووزارة الخضر له وعين الحياة التي شرب منها هذا الخضر . ومع بقاء ثغرة هامة لم يحاول راوي اسم الاسكندر سدها وهي ما هو معروف من وثنية الاسكندر المكدوني ومقتضى الآيات بكون ذي القرنين مؤمنا موحدا موقنا بالآخرة يوحي الله إليه ويكلمه كأنه من الأنبياء . ومما رواه الطبري وتابعه غيره : أن الجبلين اللذين أنشأ ذو القرنين السد بينهما هما بين أرمينية وأذربيجان .

وروى ابن كثير إلى هذا أن الخليفة العباسي الواثق أرسل سرية للبحث عن السد فغابت سنتين وعادت بعد أن لاقت الأهوال ورأت العجائب في البلاد التي طوفت فيها واحدة بعد أخرى وقالت : إنها رأت بناء من الحديد والنحاس ، وله باب عظيم وعليه أقفال عظيمة ، وإن عنده حرسا من الملوك المتاخمين له وإنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال . ولم يذكر المفسر في روايته مكان السد الذي بلغت إليه .

وفي تفسير القاسمي وهو من التفاسير الحديثة في سياق تفسير الآيات عزوا إلى " بعض المحققين " أنه كان يوجد وراء جبل من جبال القوقاز – القفقاس - المعروف عند العرب بجبل قاف في إقليم طاغستان قبيلتان : إحداهما اسمها آقوق ، وثانيتهما ماقوق عرّبهما العرب بياجوج وماجوج . وهما معروفتان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب . وتناسل منهما كثير من أمم الشمال والشرق في روسية وآسية . وأن السد كان بين مدينتي دربند وخوزار في إقليم الطاغستان ، حيث يوجد مضيق بين المدينتين يسمى الآن بباب الحديد وبالسد وفيه أثر سد حديدي قديم بين جبلين . وذكر نقلا عن صفوة الأخبار أن السور الذي وصلت إليه سرية الواثق العباسي هو سور الصين الذي يبلغ طوله نحو 1250 ميلا وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما ، وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إلى أربعين قدما . وهذا السور لم ينبه إسكندر وإنما الذي بناه الاسكندر هو سد دربند . وكلام هذا المفسر يفيد أن ذا القرنين هو الاسكندر المكدوني المشهور . وقد حاول المفسر أن يوفق بين ما هو معروف من عقيدة الاسكندر المكدوني الوثنية ، وبين مقتضى الآيات القرآنية وقال إنه لا يقتضي من عقيدة اليونان الوثنية أن يكون هو وثنيا وأن أساتذته أرسطاطاليس وفيثاغوروس إلهيون . ولا تبلغ محاولته حد الإقناع ، وظاهر من كلامه أنه بنى السد لمنع زحف قبائل ماقوق وآقوق . . .

وهناك عالمان هنديان مسلمان مشهوران عصريان وهما : شلبي النعماني وأبو الكلام آزاد بحثا في موضوع ما جاء في الفصل القرآني بحثا يتسم بسمة العلم والتروي ، ويستند إلى مصادر عديدة ووثائق أثرية هامة . وقد أدى البحث عند الأول إلى ترجيح كون ذي القرنين هو : دارا الكبير ملك الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد ، وأن اليأجوج والمأجوج من قبائل الاسكيت التترية التي كانت تقيم في الشرق من جبال القوقاز ، وأن السد الذي بناه هو السد المعروف بسد دربند القريب من مدينة دربند الواقعة غربي بحر الخزر . وأدى البحث عند الثاني إلى ترجيح كون ذي القرنين هو الملك كورش ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد والذي حكم قبل دارا الكبير والذي قوض مملكة بابل الكلدانية وأذن لليهود المسبيين في مملكة بابل بالعودة إلى فلسطين وتجديد أورشليم ( بيت المقدس ) ومعبدها سنة ( 538ق . م ) . وأن السد هو غير سد دربند ، وإنما هو بين طرفي جبل من جبال القوقاز بين مدينتي ويلادي كيوكز وتفليس ، ويعرف باسم مضيق كورش فيما يعرف به من أسماء . وأنه لا يزال موجودا وهو خليط بالحديد والنحاس . وأن يأجوج ومأجوج هم قبائل منغولية كانت تعيث فسادا في البلاد فأنشأ كورش السد لمنعهم . وحاول كل من العالمين إثبات أن كلا من رجليهما أنه ذو القرنين بما كان من كثرة فتوحاته وسعة سلطانه وإثبات أن الزرادشتية التي كان يدين بها كل من الملكين تقول بوحدة الله وتأمر بالخير وتدين بالآخرة .

وقد استند الاثنان فيما استندا إليه إلى سفر نبوءة دانيال من أسفار العهد القديم المتداولة إلى اليوم . وكان دنيال من جملة من سباهم نبوخذ نصر إلى بابل على ما ذكر في هذا السفر . ولقد جاء في الإصحاح الثامن منه أنه رأى في منامه كبشا ذا قرنين ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه وإذ بتيس من المعز جاء من المغرب له قرن واحد فهجم على الكبش ذي القرنين وضربه وكسر قرنيه وصرعه على الأرض وداسه ، فالتمس دنيال من جبريل أن يفسر له الرؤيا فطمأنه بأنها بشرى بخلاص إسرائيل من السبي وأن الكبش ذا القرنين وهو ملوك ماداي وفارس وأن تيس المعز هو ملك ياوان .

ولقد ذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس {[1332]} في تاريخه الذي ألفه في القرن الأول للميلاد المسيحي ، ووصل إلى عهدنا أن أحبار اليهود تقدموا إلى الاسكندر المكدوني حينما جاء إلى أورشليم بعد أن انتصر على ملك فارس دارا الثالث وقوض مملكته وأوردوا على مسامعه رؤيا دانيال وقالوا له : إنه هو المقصود من تيس المعز الذي ضرب بقرنه ذا القرنين ملك فارس وكسر قرنيه . فالنعماني فسر ذا القرنين بدارا الكبير بسبب تعاظم ملك فارس في زمنه ، وأبو الكلام فسره بكورش بسبب كونه هو الذي قوض ملك بابل ونُجِّي بنو إسرائيل من السبي في زمنه . مع أن الاسكندر الذي فسره اليهود بالتيس ذي القرن الواحد إنما ضرب وغلب دارا الثالث الذي كان في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد .

ومهما يكن من أمر فإن من واجبنا أن ننوه بجهد العالمين وإن كان من الحق أن نقول : إن استنتاجاتهما لا تصل في رأينا إلى مبلغ الإقناع ، وإن كنا نرى أن أبا الكلام كان أقرب إلى التوفيق ؛ لأنه استند إلى سفرين آخرين من أسفار العهد القديم ذكر فيهما كورش . وهذان السفران هما سفر نبوءة أشعيا وسفر عزرا .

ولقد جاء في الإصحاح الرابع والأربعين من الأول بلسان الربّ هذه العبارة : " أنا القائل لكورش أنت راعيّ وأنت متمم لكل ما أشاء " . وجاء في الإصحاح الخامس والأربعين هذه العبارة : " هكذا قال الرب لمسيحه كورش الذي أخذت بيمينه لأخضع الأمم بين يديه وأحل أحقاء الملوك وأفتح أمامه المصاريع إني أسير قدامك فأقوم المعوج وأحطم مصاريع النحاس وأكسر مغاليق الحديد وأعطيك كنوز الظلمة ودفائن المخابئ ، لتعلم أني أنا الرب الذي دعاك باسمك إله إسرائيل . إني لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك وكنيتك وأنت لا تعرفني " . ولقد جاء في الإصحاح الأول من السفر الثاني –عزرا - هذه العبارة : " في السنة الأولى لكورش ملك فارس لكي يتم ما تكلم به الرب بضم أرميا نبه الرب روح كورش ملك فارس ، فأطلق نداء في مملكته كلها وكتابات أيضا قائلا : هكذا قال كورش ملك فارس جميع ممالك الأرض قد أعطانيها الرب إله السماوات ، وأوصاني بأن أبني له بيتا في أورشليم التي بيهوذا . فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه . فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا ويبني بيت الرب إله إسرائيل وهو الإله الذي في أورشليم . وكل من بقي في أحد المواضع حيث هو متغرب فليمدده أهل موضعه بالفضة والذهب والمال والبهائم فضلا عما يتطوعون به لبيت الله الذي في أورشليم " . حيث يفيد هذا أن كورش حسب عبارة السفرين كان مؤمنا بإله السماوات يتلقى الأمر أو الوحي أو الإلهام منه ويعمل على بناء مسجد له من جديد في أورشليم .

وأن الله اعتبره وكيلا له ليتمم كل ما شاءه وأنه أخذ بيده وأخضع له الأمم وفتح أمامه المصاريع وفتح له دفائن المخابئ وأعطاه كنوز الظلمة وسار قدامه . ولقد جاء في الإصحاحات التالية للإصحاح الثامن من سفر نبوءة دانيال أخبار رؤى أخرى رآها دانيال وبشارات تلقاها من جبريل وميكائل بخلاص قومه وانتصار كورش على بابل وتعاظم مالك ماواي وفارس فكان هذا مما عزز به أبو الكلام رأيه بكون ذي القرنين هو كورش ملك فارس بالإضافة إلى ما اطلع عليه من مدونات فارسية قديمة عن أعمال كورش وبنائه السد لمنع أذى القبائل المنغولية المنعوتة بيأجوج ومأجوج على النحو الذي ذكرناه آنفا .

وأسفار العهد القديم ليست فوق الشبهة في أسلوب تأليفها ووقته وهدفه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف . ومن جملتها الأسفار الثلاثة ، ولكنا نعتقد أنها كانت متداولة في أيدي اليهود قبل الميلاد المسيحي بقرون عديدة وأن اليهود كانوا يتداولون ما فيها من أخبار عن كورش وإيمانه بالله وتأييد الله له وما أتاحه له من توفيقات عظيمة خارقة من جملة ذلك ما أشير إليه في القرآن إشارة خاطفة وكونه ذا القرنين في رؤيا دانيال وكون التيس هو الاسكندر المكدوني ، وأنهم كانوا يفسرون غلبة هذا لملك فارس وتقويضه مملكته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد بغلبة ذي القرنين على ما كان من غلبته على واحد من خلفاء ذي القرنين . وأنهم ظلوا يتداولون الأسفار والأخبار إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا مصدرها بالنسبة لعصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته . وكان ذلك حافزا للسؤال عن ذي القرنين الذي كانت تذكر أخباره العظيمة فأوحى للنبي صلى الله عليه وسلم بما شاءت حكمة التنزيل أن يوحى إليه عن ذلك بأسلوب يتساوق هدفه مع هدف القصص القرآنية من الموعظة والعبرة .

ومع احتمال أن تكون استنتاجات أبي الكلام معقولة فإن هذا يكون واردا بالنسبة لما كان يدور ويتداول من أخبار وآثار وليس على اعتبار أنه الحقيقة التاريخية المقصودة بالآيات القرآنية ؛ لأنه من قبيل التوفيق والتطبيق ولا يمكن أن يعتبر أنه هذه الحقيقة ؛ لأن هذا لا يصح إلا إذا كان هناك يقينا من تاريخ أو نصا صريحا في القرآن أو ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك شيء من ذلك . والحديث الوحيد المعزو إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي رواه الطبري وأوردناه قبل تفسير ذي القرنين بالشاب اليوناني الذي بنى الإسكندرية . وقد أوردنا المآخذ على هذا الحديث التي تسوغ عدم الأخذ به .

أما مواضع العظة والعبرة في القصة فمنها : أولا : المحاورة التي حكت بين الله تعالى وذي القرنين وتضمنت تقرير كون ذي القرنين مؤمنا داعيا إلى الإيمان ويعامل المؤمنين الذي يعملون الصالحات بالحسنى ويعذب الظالمين المنحرفين .

وثانيا : الآية التي تحكي توكيد ذي القرنين بمجيء وعد الله وكونه حقا لا ريب فيه والتي تعني البعث والنشور . وثالثا : ما تضمنته القصة من تقرير كون هذا الملك العظيم الذي بلغ سلطانه وفتوحاته وخطورة شأنه هذا المبلغ الذي كاد يكون سيد مشارق الأرض ومغاربها مؤمنا بالله موقنا باليوم الآخر وداعيا إلى الله ومثيبا للمؤمنين الصالحين بالحسنى ومعاقبا للكافرين الجاحدين ، حيث يتطابق في صفاته وخطته مع الدعوة التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم وتتضمنها آيات القرآن . ورابعا : الآيات [ 98-101 ] التي جاءت معقبة على الآيات القصة التي تبدو وكأنها جزء متمم لها ، جاءت لتربط بينها وبين توكيد مجيء القيامة وتنذر الكفار الذين يتصاممون عن آيات الله وذكره ، ولا يبصرون النور الهادي الذي جاءهم به رسوله بنار جهنم .

ولقد قال المفسرون القاسمي في عقب الآيات : إنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب في سياق الوقائع . وهو الحق الذي ما فتئنا ننوه به ثم أخذ يورد على ما ورد على باله من فوائد السياق . فمن ذلك :

1- القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل وكون الفوز والظفر إنما هما على قدر بذل الجهد .

2- تنشيط الهمم فلا ينبغي أن تكون أهوال الأسفار عذرا في الخمول والرضاء بالدون إذا ما تيسرت الأسباب .

3- واجب الملك أن يبذل جهده في تحقيق شكوى الشاكين وراحة رعاياه وأمنهم ودفع ما يهددهم من أخطار .

4- واجبه بالتعفف عن أموالهم إذا ما أغناه الله .

5- التحدث بنعمة الله .

6- مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال تنشيطا لهمتهم وترويحا لقلوبهم .

تعريف الغير ثمرة العمل المهم ليعرفوا قدره فيظهروا شكره .

هذا ، وإذا كان ليس هناك أحاديث صحيحة عن شخصية ذي القرنين فهناك أحاديث نبوية عديدة . منها الوارد في كتب الأحاديث الصحيحة عن يأجوج ومأجوج بحيث يكون محل للكلام عنهم في هذا النطاق . من ذلك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة في سياق تفسير الآيات وفي معرض ذكر السد الذي أنشأه ذو القرنين لمنع أذى يأجوج ومأجوج جاء فيه : " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنهم يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم : ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان ، حتى إذا أراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله ، فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه ، فيخرجون على الناس فيستقون المياه ويفر الناس منهم فيرمون بسهامهم في السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون : قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسرا وعلوا فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلِكون . فوالذي نفسي بيده إن دواب الأرض تسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم ) {[1333]} . ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال : ( اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : ما تذكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة . قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ) {[1334]} .

ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان في معرض ذكر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال جاء فيه : ( إن الله يوحي إلى عيسى بعد أن يقتل الدجال بأنه أخرج عبادا لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمُهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ){[1335]} .

وهناك أحاديث أخرى لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحتها محتملة ؛ لأنها من باب ما ورد في هذه الكتب منها حديث رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل ) وحديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن زينب بنت جحش قالت :

" استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلّق . قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم ، إذا كثر الخبث ){[1336]} . وحديث أورده ابن كثير نقلا عن الطبري ومرويا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ، وإن من ورائهم ثلاث أمم تاويل وتاييس ومنسك ){[1337]} . وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير في سياق تفسير سورة الأنبياء ولما ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ، منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته قالت : ( خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال : إنكم تقولون لا عدو لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب السعاف من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ) .

ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن مرة أخرى في آيات سورة الأنبياء هذه { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون 91 واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين 97 } حيث تفيد صراحة استمرار وجودهم في الدنيا وحبسهم عن الناس إلى الوقت المعين في علم الله حتى يفتح لهم وينطلقون من حبسهم وينسلون من كل حدب .

ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في بعض الأسفار المتداولة اليوم من أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد كذلك . بعبارة في بعضها شيء ما من التوافق والتساوق مع ما جاء في القرآن وبعض الأحاديث النبوية أيضا . من ذلك ما جاء في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر نبوءة حزقيال ، وحزقيال هذا من سبي بني إسرائيل إلى بابل ومن أنبيائهم في السبي ، ونبوءته تدور على حال بني إسرائيل وفلسطين وما لا قوه من أهوال وما سيكون أمرهم إليه ( وكلمة الرب إلي قائلا يا ابن البشر اجعل وجهك نحو جوج أرض ماجوج رئيس روش وماشك وتوبل وتنبأ عليه . وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك ياجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأجعل حلقة في فكك أنت وجميع جيوشك خيلا وفرسانا ومعهم فارس وكوش وفوط وجومر وآل توجرن وأقاصي الشمال وجميع جيوشهم وشعوب كثيرون . في آخر السنين تأتي إلى الأرض المنجاة من السيف المجموعة من شعوب كثيرين إلى جبال إسرائيل التي كانت مستوحشة كل حين فتصعد وتأتي كعاصفة وتكون كغمام يغطي الأرض . إنك ياجوج في آخر الأيام تكون فأتي بك على أرضي لكي تعرفني الأمم بأني سأجلبك عليهم . في ذلك اليوم يوم يأتي جوج على أرض إسرائيل يقول السيد الرب يطلع حنقي في وجهي وفي غيرتي ونار غضبي تكلمت . ليكونن في ذلك اليوم ارتعاش عظيم على ارض إسرائيل فيرتعش من وجهي سمك البحر وطير السماء ووحش الصحراء وجميع الدبابات الدابة على الأرض وجميع البشر على وجه الأرض . وتندك الجبال وتسقط المعاقل وكل سور يسقط إلى الأرض . لكني أدعو السيف عليه في جميع جبالي فيكون سيف كل رجل على أخيه . وأدنيه بالوباء والدم والمطر الطاغي وحجارة البرد وأمطر النار والكبريت عليه وعلى جيوشه وعلى الشعوب الكثيرين الذين معه فأتعظم وأتقدس وأتعرف على عيون أمم كثيرين فيعلمون أني أنا الرب ) . وجاء في الإصحاح التاسع والثلاثين من السفر نفسه : ( وأنت يا ابن البشر تنبأ على جوج وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك ياجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأقتادك وأصعدك من أقاصي الشمال وآتي بك إلى جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهمك من يدك اليمنى على جبال إسرائيل تسقط أنت وجميع جيوشك والشعوب الذين معك وللجوارح والعصافير وكل ذي جناح ولوحش الصحراء قد جعلتك مأكلا . على وجه الصحراء تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب ، وأرسل نارا على ماجوج والساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب ويخرج سكان مدن إسرائيل بالسلاح ويسلبون الذي سلبوهم ، في ذلك اليوم أجعل لجوج موضعا ذا اسم قبرا بإسرائيل وداي العابرين في شرق البحر فيسد الوادي على العابرين فيدفنون هناك جوجا وجميع جمهوره ، ويسمون الموضع وادي جمهور جوج ) .

ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الرسالة الأولى للقديس يوحنا وهو من ملحقات العهد الجديد في صدد المسيح الدجال : ( أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة ، ولما أنكم سمعتم أن المسيح الدجال يأتي يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون . فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة ) . ومن ذلك ما جاء في الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهو كذلك من ملحقات العهد الجديد في صدد ياجوج وماجوج والنبي الكذاب ( وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم اللذين في زوايا الأرض الأربع جوج وماجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر . فطلعوا على سعة الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة . فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب ، هناك يعذبون نهارا وليلا على دهر الدهور ) .

وعلى كل حال فإن من واجب المسلم أن يؤمن بوجود قبيلين اسماهما المعربان يأجوج ومأجوج ، وبأنهما خلق عجيب من خلق الله من بني آدم ، وبأنهما يخرجان في آخر الزمان من كل حدب ؛ لأن ذلك مما ورد في القرآن بصراحة وقطعية ، ومما ورد عنه تفصيل في أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ولو لم تدرك أمرهم العقول العادية ، مع الوقوف عند ما وقف عنده القرآن ، والثابت من الأحاديث النبوية ومع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكرهم بالأسلوب الذي ذكروا به حكمة . ومع ملاحظة أن ذكرهما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانت متداولة بين اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه تشابه من بعض النواحي لما ورد عنهم في الأحاديث النبوية ، وأن صفات وأخبار هذين القبيلين لم تكن نتيجة لذلك مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ، ومع ملاحظة أن ذكرهم جاء في سورة الأنبياء كنذير من نذر الله بقرب القيامة وأهوالها . وجاء في سورة الكهف مع قصة من أهدافها العظة والتدعيم والله تعالى أعلم .

ولم يدع مفسرو غلاة الشيعة هذه القصة دون لمس ؛ حيث قالوا في مدى آية : { قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا 87 } إنها تعني أنه يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابا نكرا حتى يقول يا ليتني كنت ترابا أي من شيعة أبي تراب {[1338]} ! . ومؤدى القول أن عليا رضي الله عنه هو الرب الذي يرجع إليه الناس ليعذبهم .


[1331]:انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وغيرهم ،ومنهم من يتطابق مع من سبقه كأنما ينقل عنه وفي بعض ما يورده بعضهم زيادة ونقص وتغاير أيضا .
[1332]:انظر تاريخ يوسيفوس اليهودي الترجمة العربية طبعة صادر ص 24 .
[1333]:التاج ج4 ص 152، وفسر الشارح النغف بنوع من الدود يظهر في أنف الإبل والغنم فيهلكها.
[1334]:التاج ج 5 ص 304.
[1335]:التاج ج 5 ص 321-324 ومعنى لا يدان لا يقدر عليه. وفرسى جمع فريس كقتلى وقتيل بمعنى موتى .
[1336]:قال ابن كثير عن هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث وهب.
[1337]:قال ابن كثير عن هذا الحديث ضعيف منكر.
[1338]:التفسير والمفسرون ج 2 ص 70.