التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (56)

{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وهُو أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 56 } [ 56 ]

تعليق على آية { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } الخ .

عبارة الآية واضحة ، وجمهور المفسرين يروون أن الآية نزلت في أبي طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ويوردون روايات عديدة في صدد ذلك . وهناك حديث يرويه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة نكتفي به عن الروايات ؛ قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّه أبي طالب : قل لا إله إلا الله ؛ أشهد لك بها يوم القيامة . قال : لولا أن تعيّرني قريش - يقولون : إنّما حمله على ذلك الجزع - لأقررت بها عينك فأنزل الله { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } " {[1588]} . ومقتضى الحديث أن يكون ذلك عند حضور الموت أبا طالب .

ومما يتبادر لنا من سياق الآيات وفحواها أن الآية غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق أولا ، وأن وفاة أبي طالب التي تذكر الروايات أن الآية نزلت في ظرفها إنما كانت في أواخر العهد المكي ؛ في حين أن هذه السورة نزلت في أواخر النصف الأول من هذا العهد على ما يمكن تخمينه من ترتيبها . وهذا يجعلنا نرجح أن الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة جميعها ؛ وبقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، والتهوين عليه بسبب حزنه وحسرته من مواقف العرب العنيدة ، وجحودهم وتعجيزاتهم ، على شدة رغبته في هدايتهم ، وبخاصة بعد أن أنذرهم وأقام الحجة عليهم . وأبو هريرة الذي يروي الشيخان عنه الحديث قد أسلم في أواخر العهد المكي ، وحديثه الذي يذكر فيه أن الآية نزلت في مناسبة الموقف الذي حكاه ليس خبرا عن رسول الله أخبره به كما هو ظاهر من صيغته . ونرجح أنه اجتهادي منه ، والله أعلم .

ومع ذلك فليس من المستبعد أن يكون تمسك أبي طالب بدينه منذ البدء بالرغم من رغبة النبي في إسلامه وإلحاحه عليه في ذلك . وهذا أمر لا بد من أنه كان واقعا لا يتحمل شكا ؛ مما كان يؤلم نفسه ؛ فنزلت الآية على سبيل التسلية . كما أنه ليس من المستبعد أن يكون هناك زعماء أو أشخاص آخرون كانوا محبين للنبي صلى الله عليه وسلم أو لم يظهروا له جفاء شديدا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على هدايتهم ويحزنه عدم استجابتهم إليه في العهد المكي ؛ ومنهم ذوو قرباه الأدنون مثل عمه العباس وأبنائه وابن عمه عقيل وغيرهم الذين كانوا نصراء له عصبيّة . وقد يكون في الآية التالية لهذه الآية قرينة ما على شيء من ذلك على ما سوف نشرحه بعد .

ومهما يكن من أمر فليس في شأن ذلك أن يجعل الصلة بين الآية وسياقها السابق واللاحق منقطعة كما هو المتبادر .

هذا ؛ وتعبير { وهو أعلم بالمهتدين } يزيل ما يمكن أن يرد من توهم من جملة { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } ويفسره . وقد انطوى في هذه الجملة معنى التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالله تعالى هو أعلم بالذين يرغبون في الهدى فيوفقهم إلى ما رغبوا فيه ، ويشرح صدرهم له ؛ فلا ينبغي له لأن يحزن ويغتمّ من عدم إيمان من لا يؤمن ، أو من يحب هو أن يؤمن . وهكذا يتسق المعنى مع المعاني المماثلة في مواضع القرآن الأخرى ، ومع المبادئ التي يقررها القرآن كما هو واضح . وليس من محل والحال هذه للجدل الكلامي حول كون إيمان المؤمن وكفر الكافر يقعان بمشيئة الله وإرادته الأزليتين أو بدونهما ؛ فالآية لا تتحمل ذلك ولا تقصده . ومع ذلك فإنه لما كان في القرآن آيات صريحة بأن إيمان المؤمن وكفر الكافر ينسبان إلى صاحبيهما ويقعان باختيارهما ويترتب عليهما العذاب والنعيم بسبب ذلك ، مما مرّ منه أمثلة كثيرة ؛ ومنه آيات سورة الكهف هذه { وقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن ومَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وسَاءتْ مُرْتَفَقًا 29 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا 30 أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ويَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا 31 } ؛ فإن الأولى تأويل هذه الآية وأمثالها بأن الإنسان إنما يشاء بمشيئة الله ، أو أن كسبه لأعماله هو نتيجة ما اقتضته حكمة الله وإرادته ؛ من إقداره على التمييز والاختيار على ما ذكرناه في مناسبات سابقة ؛ لأن ذلك هو المنسجم المتسق مع الآيات القرآنية وروحها عامة ، ومع حكمة إرسال الرسل والتبشير والإنذار .


[1588]:التاج ج 4 ص 176ـ 177 وننبه على أن الشيعة يروون أن أبا طالب قد أسلم قبل موته. وقال الطبرسي في سياق تفسيره الآية [26] من سورة الأنعام: إن آل البيت مجمعون على إيمان أبي طالب وإجماعهم حجة. وروي عن ابن عمر أن أبا بكر أتى بأبيه يوم الفتح إلى النبي فأسلم على يديه فقال له: ألا تركت الشيخ فآتيه، وكان أعمى، فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله، والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينيك قال: صدقت. ونحن نتمنى أن يكون ذلك صحيحا لما كان من مواقف أبي طالب من نصرة النبي، ولكن الحديث الصحيح الذي أوردناه ينتقص هذا الخبر غير الموثق، وجملة (إجماع أهل البيت) لا يمكن أخذها مسلمة. والله أعلم.