معاني القرآن للفراء - الفراء  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

وقوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا . . . }

يعنى النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم ، والمشركين يوم بدر . { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } قرئت بالرفع ؛ وهو وجه الكلام على معنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } على الاستئناف ؛ كما قال الشاعر :

فكنتُ كذِي رِجْلينِ رجلٌ صحيحةٌ *** ورِجْلٌ رمَى فيها الزّمان فشَلّتِ

ولو خفضت لكان جيدا : تردّه على الخفض الأوّل ؛ كأنك قلت : كذي رجلين : كذي رجلٍ صحيحةٍ ورجلٍ سقيمةٍ . وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أوّل الكلام . ولو قلت : " فئةً تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرةً " كان صوابا على قولك : التقتا مختلفتين . وقال الشاعر في مثل ذلك مما يستأنف :

إذ مُِتُّ كان الناس نصفين شامتٌ *** وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كنت أفعل

ابتدأ الكلام بعد النصفين ففسَّره . وأراد : بعضٌ شامتٌ وبعض غيرُ شامت . والنصب فيهما جائز ، يردّهما على النصفين . وقال الآخر :

حتى إذا ما استقلّ النجمُ في غَلَس *** وغودِر البقلُ ملْوِىٌّ ومحصود

ففسر بعض البقل كذا ، وبعضه كذا . والنصب جائز .

وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الذي ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء ، والنصب على الاتصال بما قبله ؛ من ذلك : رأيت القوم قائما وقاعدا ، وقائم وقاعد ؛ لأنك نويت بالنصب القطع ، والاستئناف في القطع حسن . وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز ؛ فتقول : أظنّ القوم قياما وقعودا ، وقيام وقعود ، وكان القوم بتلك المنزلة . وكذلك رأيت القوم في الدار قياما وقعودا ، وقيامٌ وقعود ، وقائما وقاعدا ، وقائم وقاعد ؛ فتفسّره بالواحد والجمع ؛ قال الشاعر :

وكتيبةٍ شَعْواء ذات أشِلّة *** فيها الفوارس حاسر ومقنَّع

فإذا نصبت على الحال لم يجز أن تفسّر الجمع بالاثنين ، ولكن تجمع فتقول : فيها القوم قياما وقعودا .

أما الذي على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله : اضرب أخاك ظالما أو مسيئا ، تريد : اضربه في ظلمه وفي إساءته . ولا يجوز هاهنا الرفع في حاليه ؛ لأنهما متعلقتان بالشرط . وكذلك الجمع ؛ تقول : ضربت القوم مجرَّدين أو لابسين ولا يجوز : مجردون ولا لابسون ؛ إلا أن تستأنف فتخبر ، وليس بشرط للفعل ؛ ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم في هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا ؛ فتقول : اضرب القوم مجرّدين أو لابسين ؛ لأن الشرط في الأمر لازم . وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا . فلذلك جاز الوجهان في الماضي .

وقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } زعم بعض مَن رَوَى عن ابن عبَّاس أنه قال : رأي المسلمون المشركين في الحَزْر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، فهذا وجه . ورُوى قول آخر كأنه أشبه بالصواب : أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلاثمائة وأربعة عشر ، فلذلك قال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ } يعني اليهود " آيةٌ " في قلّة المسلمين وكثرة المشركين .

فإن قلت : فكيف جاز أن يقال " مِثْلَيْهِمْ " يريد ثلاثة أمثالهم ؟ قلت : كما تقول وعندك عبد : أحتاج إلى مثله ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله ، وتقول : أحتاج إلى مِثلَىْ عبدي ، فأنت إلى ثلاثة محتاج . ويقول الرجل : معي ألف وأحتاج إلى مثليه ، فهو يحتاج إلى ثلاثة . فلما نوى أن يكون الأَلْف داخلا في معنى المِثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة . ومثله في الكلام أن تقول : أراكم مثلكم ، كأنك قلت : أراكم ضعفكم ، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم ، فهذا على معنى الثلاثة .

فإن قلت : فقد قال في سورة الأنفال : { وإِذْ يُرِيكُموهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ في أَعْيُنِكُمْ قلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ في أَعينِهِم } فكيف كان هذا ها هنا تقليلا ، وفي الآية الأولى تكثيرا ؟ قلت : هذه آية المسلمين أخبرهم بها ، وتلك الآية لأهل الكفر . مع أنك تقول في الكلام : إني لأرى كثيركم قليلا ، أي قد هُوّن علىّ ، لا أنى أرى الثلاثة اثنين .

ومن قرأ ( تَرَوْنَهم ) ذهب إلى اليهود لأنه خاطبهم ، ومن قال ( يَرَوْنهم ) فعلى ذلك ؛ كما قال : { حتى إِذا كُنْتُمْ في الفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِم } وإن شئت جعلت ( يَرَوْنَهم ) للمسلمين دون اليهود .