الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

قوله : { فِي بُيُوتٍ } : فيها ستةُ أوجهٍ . أحدُها : أنها صفةٌ ل " مِشْكاةٍ " أي : كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي : في بيتٍ من بيوتِ الله . الثاني : أنه صفةٌ لمصباح . الثالث : أنه صفةٌ ل " زجاجة " . الرابع : أنه متعلقٌّ ب " تُوْقَدُ " . وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على " عليم " . الخامس : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه

{ فِي تِسْعِ آيَاتٍ } [ النمل : 12 ] أي : يُسَبِّحونه في بيوت . السادس : أَنْ يتعلَّقَ ب " يُسَبِّحُ " أي : يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت . وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه : { فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] . وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على " عليم " . وقال الشيخ : " وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ " ولم يُذْكر سوى قولين .

قوله : { أَذِنَ اللَّهُ } في محلِّ جرٍّ صفةً ل " بيوتٍ " ، و " أن تُرفع " على حَذْفِ الجارِّ أي : في أَنْ تُرْفَعَ . ولا يجوزُ تَعَلُّقُ " في بيوت " بقوله : " ويُذْكَرُ " لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز " أَنْ " ، وما بعد " أَنْ " لا يتقدَّم عليها .

قوله : { يُسَبِّحُ } قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة . والأَوْلَى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه ، والذي يليه أَوْلَى . و " رجالٌ " على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين : إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه ، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : مَنْ يُسَبِّحه ؟ فقيل : يُسَبِّحُه رجالٌ . وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر :

لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ *** ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ

كأنه قيل : مَنْ يبكيه ؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ . إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً ، منهم مَنْ جَوَّزَه ، ومنهم مَنْ مَنعه . والوجهُ الثاني في البيت : أنَّ " يَزيدُ " منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي : يا يزيد ، وهو ضعيف جداً .

والثاني : أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : المُسَبِّحه رجالٌ . وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال .

وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل . والفاعلُ " رجال " فلا يُوْقَفُ على الآصال .

وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة " تُسَبِّح " بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء ؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ . وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء ، كقولهم : " صِيْد عليه يومان " أي : وَحْشُها . وخَرَّّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي : تُسَبَّح التسبيحةُ ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين ، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً { لِيُجْزَى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الجاثية : 14 ] أي : ليُجْزَى الجزاءُ قوماً ، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية ؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح .