الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{هَـٰٓأَنتُمۡ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا يُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۚ قُلۡ مُوتُواْ بِغَيۡظِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (119)

قوله تعالى : { هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ } : قد تقدَّم نظيرُه وتحقيقُه مرتين ، ونزيد هنا أن يكونَ " أولاء " في موضعِ نصبٍ بفعل محذوف ، فتكونُ المسألةُ من الاشتغال نحو : " أنا زيداً ضربته " وقوله : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } يُحتمل أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ وأَنْ يكونَ جملةً حالية . و " الكتاب " يجوز أَنْ تكونَ الألفُ واللامُ للجنس ، والمعنى بالكتبِ كلها ، فاكتفى الواحد ، ويجوزُ أن تكونَ للعهدِ ، والمرادُ به كتابٌ مخصوصٌ .

وقوله : " عليكم " . متعلِّقٌ ب " عَضُّوا " ، وكذلك : " من الغيظِ " . و " مِنْ " فيه لابتداءِ الغاية ، ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى اللام فتفيدَ العلة أي : من أجلِ الغَيْظِ . وجَوَّز أبو البقاء في " عليكم " وفي " من الغيظ " أن يكونا حالَيْن ، فقال : " ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : حَنِقين عليكم ، " من الغيظِ " متعلِّقٌ ب " عَضُّوا " أيضاً ، و " مِنْ " لابتداء الغايةِ أي : من أجلِ الغيظِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : " مغتاظين " انتهى . وقولُه : " ومِنْ لابتداء الغاية أي : من أجل الغيظ " كلامٌ متنافر ، لأنَّ التي للابتداء لا تُفَسَّر بمعنى " من أجل " فإنه معنى العلة ، والعلةُ والابتداء متغايران ، وعلى الجملةِ فالحاليةُ فيها لا يَظْهَرُ معناها ، وتقديرُه الحالَ ليس تقديراً صناعياً ، لأنَّ التقديرُ الصناعِيَّ إنما يكون بالأكوان المطلقةِ .

والعَضُّ : الأَزْمُ بالأسنانِ وهو تحامُلُ الأسنانِ بعضِها على بعضٍ . يقال : عَضِضْتُ بكسر العين في الماضي أعَضُّ بالفتحِ عَضَّاً وعَضيضاً . قال امرؤ القيس :

1406 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كفَحْلِ الهجانِ يَنْتَحي للعضيضِ

ويُعَبَّرُ به عن الندمِ المفرط ، ومنه : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ }

[ الفرقان : 27 ] وإنْ لم يكن ثَمَّ عضٌّ حقيقةً . قال أبو طالب :

وقد صالَحُوا قوماً علينا أَشِحَّةً *** يَعَضُّون غيظاً خَلْفَنا بالأنامِلِ

جَعَلَ الباءَ زائدةً في المفعول ، إذ الأصلُ : يَعَضُّون خلفَنا الأنامل ، وله نظائرُ مرت . وقال آخر :

قدَ افنى أنامِلَه أزْمُهُ *** فَأَمْسَى يَعَضُّ عليَّ الوَظِيفا

وقال الحارث بن ظالم المُرِّي :

وأقتلُ أقواماً لِئاماً أذِلَّةً *** يَعَضَّون مِنْ غيظٍ رؤوسَ الأباهِمِ

وقال آخر :

إذا رَأَوْني أطالَ اللهُ غيظَهُمُ *** عَضُّوا من الغيظِ أَطْرَافَ الأباهيم

والعَضُّ كلُّه بالضادِ إلاَّ في قولِهم : " عَظَّ الزمانُ " ِأي اشتدَّ ، وعَظَّتِ الحربُ ، فإنهما بالظاءِ أختِ الطاء ، وأنشد :

وعَظَّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ *** من المالِ إلاَّ مُسْحتاً أو مُجَلَّفُ

وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : " وعَضُّ زمان " بالضاد .

والعَضُّ : بضمِّ الفاء عَلَف من نوىً مرضوضٍ وغيرِه ، ومنه : بعير عُضاضِيٌّ أي : سمينٌ كأنه منسوبٌ إليه ، وأَعَضَّ القومُ : إذا أكلَتْ إبلُهم ذلك والعِضُّ بكسر الفاء الداهية من الرجال كأنهم تَصَوَّروا عَضَّه وشدته . وزمنٌ عضوضٌ أي : جَدْب ، والتَّعْضُوضُ : نوعٌ من التمرِ سُمِّي بذلك لشدة مَضْغِه وصعوبتِه .

والأناملُ : جمع أَنْمُلة وهي رؤوس الأصابع ، قال الرماني : " واشتقاقُها من النملِ هذا الحيوانُ المعروف ، شُبِّهَتْ به لدِقَّتها وسرعةِ تصرُّفها وحركتها ومنه قالوا للنمَّام : نَمِل ومُنْمِل لذلك قال :

ولستُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ *** ولا مُنْمِشٍ منهمُ مُنْمِلُ

وفي ميمها الضم والفتح .

والغَيْظُ : مصدر غاظَه يَغْيظه أي : أغضبه ، وفَسَّره الراغب بأنه أشدُّ الغضب قال : " وهو الحرارة التي يَجِدُها الإِنسان من ثَوَران دم قلبه " قال : وإذا وُصِف به اللهُ تعالى فإنما يُراد الانتقامُ . والتغيظ : إظهارُ الغيظ ، وقد يكونُ مع ذلك صوتٌ . قال تعالى : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .

والجملةُ من قولِه : " وتؤمنون " معطوفةٌ على : " تُحِبُّونهم " ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة . / وقال الزمخشري : " والواو في " وتؤمنون " للحالِ وانتصابُها من " لا يُحِبُّونكم " أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالُكم تُحِبُّونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم " قال الشيخ : " وهو حسنٌ ، إلاَّ أنَّ فيه من الصناعة النحوية ما يَخْدِشُه ، وهو أنه جعل الواوَ في " وتؤمنون " للحال وانتصابها من " لا يحبونكم " ، والمضارعُ المثبتُ إذا وَقَع حالاً لا تدخُلُ عليه واو الحال تقول : " جاء زيدٌ يضحك " ولا يجوز : " ويضحك " . فأمَّا قولُهم : " قمتُ وأَصُكُّ عينَه " ففي غاية الشذوذِ ، وقد أُوَّلَ على إضمارِ مبتدأ أي : " وأنا أصُكُّ عينه " فتصيرُ الجملةُ اسميةً ، ويُحتمل هذا التأويلُ هنا أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتابِ كله ، لكنَّ الأَوْلى ما ذكرناه من كونها للعطف " يعني فإنه لا يُحْوِج إالى حَذْفٍ بخلافِ تقدير مبتدأ فإنه على خلاف الأصل . وثَمَّ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها السياقُ ، والتقدير : وتُؤمْنون بالكتاب كله ولا يُؤمنون هم به كلِّه ، بل يقولون : نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض .

قوله : { بِغَيْظِكُمْ } يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للحالِ أي : موتوا ملتبسين بغيظِكم لا يُزايلكم ، وهو كنايةٌ عن كثرةِ الإِسلام وفُشُوِّه ، لأنه كلما ازداد الإِيمان زاد غيظُهم . ويجوز أن تكونَ للسببية أي : بسبب غيظكم .

وقوله : { مُوتُواْ } صورتُه أمر ومعناه الدعاء ، وقيل : معناه الخبر أي : إن الأمر كذلك ، وقد قال بعضهم : " إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الدعاء لأنه لو أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة فإنَّ دعوته لا تُرَدُّ ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآية ، ولا يجوز أن يكونَ بمعنى الخبرِ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أَخْبَر ولم يؤمِنْ أحدٌ بعدُ ، وإذا انتفى هذان المَعْنَيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ والتهديد ، ومثله :

{ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] " إذا لم تَسْتَح فاصنع ما شئت " وهذا الذي قاله ليس بشيء ؛ لأنَّ مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء إنْ قصد به الدعاء ، ولا تحت الخبر إنْ قَصَدَ به الإِخبار .