قوله تعالى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ } : يجوزُ أن ينتصب بفعل مقدَّر فقدَّره أبو البقاء تارةً ب " اذكر " وتارةً بالقول المحذوف العامل في جملة النداء من قوله " يا مَعْشَر " أي : ويقول : يا معشرَ يوم نحشرهم ، وقَدَّره الزمخشري : " ويوم يَحشرهم وقلنا كان ما لا يوصف لفظاعته " . قال الشيخ : " وما قلناه أَوْلَى " يعني مِنْ كونه منصوباً ب " يقول " المحكي به جملة النداء " قال : " لاستلزامه حذفَ جملتين إحداهما جملة " وقلنا " والأخرى العاملة في الظرف " . وقَدَّره الزجاج بفعل قول مبني للمفعول : يُقال لهم يا معشر يوم نحشرهم ، وهو معنى حسن ، كأنه نظر إلى معنى قوله " ولا يُكَلِّمهم ولا يزكِّيهم " فبناه للمفعول ، ويجوز أن ينتصب " يوم " بقوله " وليُّهم " لما فيه من معنى الفعل أي : وهو يتولاَّهم بما كانوا يعملون ويتولاَّهم يوم يحشرهم . و " جميعاً " حال أو توكيد على قول بعض النحويين . وقرأ حفص " يحشرهم " بياء الغيبة ردَّاً على قوله " ربهم " أي : ويوم يحشرهم ربُّهم .
قوله : { يَا مَعْشَرَ } في محلِّ نصب بذلك القول المضمرِ أي : يقول أو قلنا ، وعلى تقدير الزجاج يكون في محل رفعٍ لقيامِه مَقام الفاعل المنوب عنه . والمعشرُ : الجماعة قال :
وأبغضُ مَنْ وضعتُ إليَّ فيه *** لساني معشرٌ عنهم أذودُ
والجمع : معاشر ، كقوله عليه السلام : " نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث " وقال الأودي :
فينا معاشرُ لن يَبْنوا لقومِهمُ *** وإن بَنى قومُهمْ ما أفسدوا عادوا
وقوله { مِّنَ الإِنْسِ } في محلّ نصب على الحال أي : أولياءهم حال كونهم من الإِنس ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيانِ الجنس ؛ لأنَّ أولياءهم كانوا إنساً وجِنَّاً والتقدير : أولياؤهم الذين هم الإِنس . وربَّنا حُذِفَ منه حرف النداء . والجمهور على " أَجَلَنا " بالإِفراد لقوله " الذي " . وقرئ " آجالنا " بالجمع على أفعال ، " الذي " بالإِفراد/ والتذكير ، وهو نعت للجمع ، فقال أبو علي : " هو جنس أوقع الذي موقع التي " . قال الشيخ : " وإعرابه عندي بدل كأنه قيل : الوقت الذي ، وحينئذٍ يكون جنساً ولا يكون إعرابُه نعتاً لعدم المطابقة بينهما " .
قوله " خَالِدِينَ " منصوبٌ على الحال وهي حالٌ مقدرة . وفي العامل فيها ثلاثة أوجه أحدها : أنه " مثواكم " لأنه هنا اسمُ مصدر لا اسم مكان ، والمعنى : النار ذات ثوائكم ، أي إقامتكم في هذه الحال ، ولذلك ردَّ الفارسي على الزجاج حيث قال : المثوى المقام أي : النار مكان ثوائكم أي إقامتكم . قال الفارسي : " المَثْوى عندي في الآية اسم المصدر دون المكان لحصول الحال معملاً فيها ، واسم المكان لا يعمل عملَ الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه ، وإذا لم يكن مكاناً ثبت أنه مصدر ، والمعنى : النار ذات إقامتكم فيها خالدين ، فالكاف والميم في المعنى فاعلون وإن كان في اللفظ خفضاً بالإِضافة ، ومثلُ هذا قولُ الشاعر :
وما هي إلا في إزارٍ وعِلْقَةٍ *** مُغَارَ ابنِ هَمَّامٍ على حَيّ خَثْعما
وهذا يَدُلُّ على حَذْفِ المضاف ، المعنى : وما هي إلا إزارٌ وعِلْقة وقت إغارة ابن همام ، ولذلك عدَّاه بعلى ، ولو كان مكاناً لَمَا عدَّاه فثبت أنه اسم مصدر لا مكان فهو كقولك : " آتيك خفوقَ النجم ومقدَمَ الحاج " ثم قال : " وإنما حَسُن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان ، ألا ترى أنه مُتَقَضٍّ غيرُ باقٍ كما أن الزمان كذلك " وذكر كلاماً كثيراً اختصرتُه .
والثاني : أن العامل فيها فعلٌ محذوف ، أي : يَثْوُون فيها خالدين ، ويدلُّ على هذا الفعلِ المقدر " مثواكم " ويراد بمثواكم مكان الثواء . وهذا جواب عن قول الفارسي المعترض به على الزجاج . الثالث : قاله أبو البقاء أن العامل معنى الإِضافة ، ومعنى الإِضافة لا يصلُح أن يكون عاملاً البتةَ فليس بشيء .
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } اختلفوا في المستثنى منه : فقال الجمهور : هو الجملة التي تليها وهي قوله { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ } وسيأتي بيانه عن قرب . وقال أبو مسلم : " هو مستثنى من قوله " وبلغْنا أجَلَنا الذي أجَّلْتَ لنا " أي : إلا مَنْ أهلكته واخترمْتَه قبل الأجل الذي سَمَّيْته لكفرِه وضلاله .
وقد ردَّ الناس عنه هذا المذهبَ من حيث الصناعة ومن حيث المعنى : أمَّا الصناعة فَمِنْ وجهين أحدهما : أنه لو كان الأمر كذلك لكان التركيب إلا ما شئت ، ليطابق قوله " أجَّلْتَ " ، والثاني : أنه قد فَصَل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله " قال النار مثواكم خالدين فيها ، ومثل ذلك لا يجوز . وأمَّا المعنى فلأن القول بالأجلين : أجل الاخترام والأجل المسمَّى باطل لدلائل مقررة في غير هذا الموضوع .
ثم اختلفوا في هذا الاستثناء : هل هو متصل أو منقطع ؟ على قولين فذهب مكي بن أبي طالب وأبو البقاء في أحد قوليهما إلى أنه منقطع والمعنى : قال النار مثواكم إلا مَنْ آمن منكم في الدنيا كقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى } [ الدخان : 56 ] أي : لكن الموتة الأولى فإنهم قد ذاقوها في الدنيا ، كذلك هذا ، لكن الذين شاءهم الله أن يؤمنوا منكم في الدنيا . وفيه بُعْدٌ ، وذهب آخرون إلى أنه متصل ، ثم اختلفوا في المستثنى منه ما هو ؟ فقال قوم : هو ضمير المخاطبين في قوله " مَثْواكم " أي إلا مَنْ آمن في الدنيا بعد أن كان مِنْ هؤلاء الكفرة . و " ما " هنا بمعنى " مَنْ " التي للعقلاء ، وساغ وقوعُها هنا لأن المراد بالمستثنى نوعٌ وصنف ، و " ما " تقع على أنواع مَنْ يعقل وقد تقدَّم تحقيق هذا في قوله { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] .
ولكن قد اسْتُبعِد هذا من حيث إن المستثنى مخالفٌ للمستثنى منه في زمان الحكم عليهما ، ولا بد أن يشتركا/ في الزمان لو قلت : " قام القوم إلا زيداً " كان معناه إلا زيداً فإنَّه لم يقم ، ولا يَصحُّ أن يكون المعنى : فإنه سيقوم في المستقبل ، ولو قلت : " سأضرب القوم إلا زيداً " كان معناه : فإنِّي لا أضربه في المستقبل ، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : فإني ضربته فيما مضى ، اللهم إلا أن يُجْعَلَ استثناء منقطعاً كما تقدَّم تفسيره .
وذهب قوم إلى أنَّ المستثنى منه زمان ، ثم اختلف القائلون بذلك ، فمنهم من قال : ذلك الزمانُ هو مدةُ إقامتهم في البَرْزَخ أي : القبور . وقيل : هو المدة التي بين حشرِهم إلى دخولهم النار ، وهذا قولُ الطبري قال : " وساغ ذلك من حيث العبارةُ بقوله " النار مَثْواكم " لا يَخُصُّ بها مستقبلَ الزمان دون غيره " . وقال الزجاج : " هو مجموع الزمانين أي : مدةَ إقامتهم في القبور ومدة حشرهم إلى دخولهم النار " . وقال الزمخشري : " إلا ما شاء الله أي : يُخَلَّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء الله إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد رُوِيَ أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يقطع أوصالَهم فيتعاوَوْن ويطلبون الرَّدَّ إلى الجحيم " وقال قوم : " إلا ما شاء الله هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد ، ووقعت " ما " عليهم لأنهم نوع كأنه قيل : إلا النوعَ الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يُخَلَّدون فيها . والظاهر أن هذا استثناءٌ حقيقةً ، بل يجب أن يكون كذلك . وزعم الزمخشري أنه يكون من باب قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يَزَلْ يُحَرِّق عليه أنيابه وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خناقه : " أهلكني الله إن نَفَّسْتُ عنك إلا إذا شئت " وقد عَلِمَ أنه لا يشاء ذلك إلا التشفِّي منه بأقصى ما يقدر عليه من التشديد والتعنيف ، فيكون قوله " إلا إذا شئت " من أشدِّ الوعيد مع تهكم " . قلت : ولا حاجة إلى ادِّعاء ذلك مع ظهور معنى الاستثناء فيه وارتكاب المجاز وإبراز ما لم يقع في صورة الواقع . وقال الحسن البصريُّ : " إلا ما شاء الله أي : مِنْ كونهم في الدنيا بغير عذاب " ، فجعل المستثنى زمن حياتهم وهو أبعدُ ممَّا تقدَّم .
وقال الفراء : وإليه نحا الزجاج " المعنى إلا ما شاء الله من زياةٍ في العذاب " . وقال غيره : إلا ما شاء الله من النَّكال ، وكل هذا إنما يتمشَّى على الاستثناء المنقطع .
قال الشيخ : " وهذا راجعٌ إلى الاستثناء من المصدر الذي يدل عليه معنى الكلام ؛ إذ المعنى : يُعَذَّبون في النار خالدين فيها إلا ما شاء الله من العذاب الزائد على النار فإنه يُعَذِّبهم به ، ويكون إذ ذاك استثناءً منقطعاً إذ العذابُ الزائد على عذاب النار لم يندرجْ تحت عذاب النار " . وقال ابن عطية : " ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبةً للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته ، وليس مما يُقال يومَ القيامة ، والمستثنى هو مَنْ كان مِنَ الكفرة يومئذٍ يؤمن في علم الله ، كأنه لمَّا أخبرهم أنه يقال للكفار : النار مثواكم استثنى لهم مَنْ يمكن أن يُؤْمن ممَّن يَرَوْنه يومئذٍ كافراً ، وتقع " ما " على صفة مَنْ يعقل ، ويؤيد هذا التأويلَ أيضاً قوله { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } أي : بمن يمكن أن يؤمن منهم " . قال الشيخ : " وهو تأويلٌ حسن وكان قد قال قبل ذلك : " والظاهر أن هذا الاستثناء هو مِنْ كلام الله تعالى للمخاطبين وعليه جاءت تفاسيرُ الاستثناء ، وقال ابن عطية ، " ثم ساقه إلى آخره ، فكيف يَسْتَحْسن شيئاً حكم عليه بأنه خلاف الظاهر من غير قرينة قوية مُخْرِجَةٍ للَّفظ عن ظاهره ؟