البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

لزم الشيء واظب عليه لا يفارقه ، ومنه اللزام .

لما حكى شبههم في إنكار نبوّة نوح عليه السلام وهي قولهم : { ما نراك إلا بشراً مثلنا } ذكر أنّ المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوّة والرسالة ، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان ، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة الله وتوحيده ، وما يجب له وما يمتنع ، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق ، وقيام الحجة على الخصم ، ولو قال : على اني على حق من ربي لقالوا له كذبت ، كقوله : { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } الآية فقال فيها : وإن يك كاذباً فعليه كذبه .

والبينة البرهان ، والشاهد بصحة دعواه ابن عباس الرحمة والنبوّة مقاتل الهداية غيرهما التوفيق والنبوّة والحكمة .

والظاهر أن البينة غير الرحمة ، فيجوز أن يراد بالبينة المعجزة ، وبالرحمة النبوّة .

ويجوز أن تكون البينة هي الرحمة ، ومن عنده تأكيد وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة ، فعميت عليكم .

الظاهر أنّ الضمير عائد على البينة ، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة ، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم ، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها .

فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفرداً ظاهر ، وإن كانت غيرها كما اخترناه .

فقوله : وآتاني رحمة من عنده ، اعتراض بين المتعاطفين .

قال الزمخشري : حقه أن يقال : فعميتا .

( قلت ) : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره ، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة ، وإما على الرحمة ، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد .

ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له الغمام لأنه يغمه .

وقيل : هذا من المقلوب ، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر :

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه *** قال أبو علي : وهذا مما يقلب ، هذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن : { فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله } انتهى .

والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة ، وأما قول الشاعر : فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف .

وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين ، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب ، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على .

ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ، ولا تقول عميت على كذا ؟ وقرأ الإخوان وحفص : فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنياً للمفعول ، أي أبهمت عليكم وأخفيت ، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنياً للفاعل .

وقرأ أبيّ ، وعليّ ، والسلميّ ، والحسن ، والأعمش : فعماها عليكم .

وروى الأعمش عن أبي وثاب : وعميت بالواو خفيفة .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما حقيقته ؟ ( قلت ) : حقيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ، ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد .

( فإن قلت ) : فما معنى قراءة أبيّ ؟ ( قلت ) : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ يعني : أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين انتهى .

وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة ، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على { أرأيتم } مشبعاً ، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين : أحدهما منصوب ، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية .

تقول : أرأيتك زيداً ما صنع ، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة .

وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني ، وقررنا هناك أن قوله : { أرأيتكم إن أتاكم عذاب من الله } أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله .

أرأيتكم يطلبه منصوباً ، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً ، فأعمل الثاني ، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً ، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير : أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها ؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله : أرأيتم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم ، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها ، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها ونحوه ، فسيكفيكهم الله ، ويجوز فسيكفيك إياهم ، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها ، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل .

قال : وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه .

وقال ابن أبي الربيع : إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير ، تقول : أعطيتكه .

قال تعالى : أنلزمكموها ؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له ، قال سيبويه : فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطباً وغائباً ، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب ، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك : أعطيتكه وقد أعطاكه .

قال الله تعالى : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ، فهذا كهذا ، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى .

فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك .

وقال الزمخشري : وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم ، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكوناً .

والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين ، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى .

وأخذه الزمخشري من الزجاج ، قال الزجاج : أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر ، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق .

وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرئ القيس :

فاليوم أشرب غير مستحقب *** والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون ، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفاً .

قال النحاس : ويجوز على قول يونس أنلزمكمها ، كما تقول : أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : أنوحيها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ .

قال ابن عطية : وفي قراءة أبيّ بن كعب أنلزمكموها من شطر أنفسنا ، ومعناه من تلقاء أنفسنا .

وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا انتهى .

ومعنى شطر نحو ، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف .