البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَآءَ رَحۡمَةٖ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗا} (28)

{ وإما تعرضنّ } .

قيل : " نزلت في ناس من مزينة استحملوا الرسول فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه » .

فبكوا " وقيل في بلال وصهيب وسالم وخباب : سألوه ما لا يجد فأعرض عنهم .

وروي أنه عليه السلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال : " يرزقنا الله وإياكم من فضله " فالرحمة على هذا الرزق المنتظر وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة .

وقال ابن زيد : الرحمة الأجر والثواب وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد ، فكان يعرض عنهم وعنه في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم : { قولاً ميسوراً } يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية .

وقال الزمخشري : وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد { فقل لهم قولاً ميسوراً } ولا تتركهم غير مجابين إذا سألوك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء ، ويجوز أن يكون معنى { وإما تعرضنّ عنهم } وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة ، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى .

والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير ، قال : وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم ، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشئ عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله ، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار .

وأجاز الزمخشري أن يكون { ابتغاء رحمة من ربك } علة لجواب الشرط فهو يتعلق به ، وقدم عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك ، أي ابتغِ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى .

وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالداً أن تقول : إن يقم خالداً فاضرب ، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز ، فتقول : إن يقم خالداً نضرب ، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعاً نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بيفعل ، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك قلت : إن تفعل يفعل زيد يفعل ، ومنع ذلك الكسائي والفراء .

وقال ابن جبير : الضمير في { عنهم } عائد على المشركين ، والمعنى { وإما تعرضنّ عنهم } لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من الله لهم ، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازماً ومتعدّياً فميسور من المتعدّي تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته .

قال الزمخشري : يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى .

ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله :

ليكن لديك لسائلِ فرجٌ . . . ***إن لم يكن فليحسن الردّ

وقال آخر

إن لم يكن ورق يوماً أجود به . . . ***للسائلين فإني لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي . . . ***إما نوَالي وإما حسن مردودي