البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

لما أمر تعالى بثلاثة أشياء ، الإيفاء بالعهد ، والإيفاء بالكيل ، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة مناه : { ولا تقف } { ولا تمش } { ولا تجعل } .

ومعنى { ولا تقف } لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم ، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته .

وقال ابن عباس : معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم .

وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه .

وقال محمد بن الحنيفة : لا تشهد بالزور .

وقال ابن عطية : ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى .

وفي الحديث : « من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج » وقال في الحديث أيضاً : « نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا » ومنه قول النابغة الجعدي :

ومثل الدمى شم العرانين ساكن . . . ***بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا

وقال الكميت :

فلا أرمي البريء بغير ذنب . . . ***ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع .

فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع .

قال الزمخشري : وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم ، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى .

وقرأ الجمهور : { ولا تقف } بحذف الواو للجزم مضارع قفا .

وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو .

كما قال الشاعر :

هجوت زبان ثم جئت معتذراً . . . ***من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم .

وقرأ معاذ القارئ : { ولا تقف } مثل تقل ، من قاف يقوف تقول العرب : قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب ، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها ، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح .

وقرأ الجرّاح العقيلي : { والفؤاد } بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في { الفؤاد } وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه .

قال الحوفي : يتعلق بما تعلق به { لك } وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد } دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول ، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ، ثم يليه البصر ، ثم يليه الفؤاد .

و { أولئك } إشارة إلى { السمع والبصر والفؤاد } وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره .

وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل .

فقال : وعبر عن { السمع والبصر والفؤاد } بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل ، ولذلك عبر عنها بأولئك .

وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى : { رأيتهم لي ساجدين } إنما قال : رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل .

وحكى الزجّاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك ، وأنشد هو والطبري :

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى . . . ***والعيش بعد أولئك الأيام

وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى .

وليس ما تخيله صحيحاً ، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي ، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه ، و { كل } مبتدأ والجملة خبره ، واسم { كان } عائد على { كل } وكذا الضمير في { مسؤولاً } .

والضمير في { عنه } عائد على ما من قوله { ما ليس لك به علم } فيكون المعنى أن كل واحد من { السمع والبصر والفؤاد } يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به .

وهذا الظاهر .

وقال الزجاج : يستشهد بها كما قال { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } وقال القرطبي في أحكامه : يسأل الفؤاد عما اعتقده ، والسمع عما سمع ، والبصر عما رأى .

وقال ابن عطية : إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي .

وقيل : الضمير في { كان } و { مسؤولاً } عائدان على القائف ما ليس له به علم ، والضمير في { عنه } عائد على { كل } فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً .

وقال الزمخشري : و { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية ، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله { غير المغضوب عليهم } يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه ؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه ؟ انتهى .

وهذا الذي ذهب إليه من أن { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية ، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل ، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه ، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت .

وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه ، فليس { عنه مسؤولاً } كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في { عنه مسؤولاً } وتأخيره في { المغضوب عليهم } وقول الزمخشري : ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى ، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى .