الجنود : جمع جند ، وهو معروف ، واشتقاقه من الجند وهو : الغليظ من الأرض اذ بعضهم يعتصم ببعض .
الغرفة : بضم الغين اسم للقدر المغترف من الماء ، كالأكلة للقدر الذي يؤكل ، وبفتح الغين مصدر للمرة الواحدة نحو : ضربت ضربة والاغتراف والغرف معروف ، والغرفة البناء العالي المشرف .
جالوت : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كان ملك العمالقة ، ويقال إن البربر من نسله .
الفئة : القطعة من الناس ، وقيل : هو مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع ، فيكون المحذوف عين الكلمة ، أو من فأوت رأسه : كسرته : فيكون المحذوف لام الكلمة قولاً .
غلب : غلباً وغلبةً : قهر ، والأغلب القوي الغليظ ، والأنثى غلبى .
{ فلما فصل طالوت بالجنود } بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف تقديره : فجاءهم التابوت ، وأقروا له بالملك ، وتأهبوا للخروج ، فلما فصل طالوت ، أي : انفصل من مكان إقامته ، يقال : فصل عن الموضع انفصل ، وجاوزه .
قيل : وأصله فصل نفسه ، ثم كثر ، فحذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدّي : كانفصل ، والباء في ، بالجنود ، للحال ، أي : والجنود مصاحبوه ، وكان عددهم سبعين ألفاً ، قاله ابن عباس .
قال عكرمة : لما رأى بنو إسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه ، فقال لهم طالوت : لا يخرج معي من بنى بناءً لم يفرغ منه ، ولا من تزّوج امرأة لم يدخل بها ، ولا صاحب زرع لم يحصده ، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها ، ولا من له أو عليه دين ، ولا كبير ، ولا عليل .
فخرج معه من تقدّم الاختلاف في عددهم على شرطه ، فسار بهم ، فشكوا قلة الماء وخوف العطش ، وكان الوقت قيظاً ، وسلكوا مفازة ، فسألوا الله أن يجري لهم نهراً .
{ قال إن الله مبتليكم بنهر } قال وهب : هو الذي اقترحوه .
وقال ابن عباس ، وقتادة : هو نهر بين الأردن وفلسطين .
وقيل : نهر فلسطين ، قاله السدّي ، وابن عباس ، أيضاً .
وقرأ الجمهور : بنهر ، بفتح الهاء .
وقرأ مجاهد ، وحميد الأعرج ، وأبو السماك ، وغيرهم : باسكان الهاء في جميع القرآن .
وظاهر قول طالوت : إن الله يوحي ، إمالة على قول من قال : إنه نبي ، أو يوحي إلى نبيهم ، وإخبار النبي طالوت بذلك قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه ، فجرت به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، ومعنى هذا الابتلاء اختبارهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع ، فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهوته في الماء ، وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى .
وبعد أن يخبر طالوت عن ما خطر بباله بأنه قول الله ، على طريق الجزم عن الله .
{ فمن شرب منه فليس مني } أي : ليس من أتباعي في هذه الحرب ، ولا أشياعي ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو : «من غشنا فليس منا » ، «ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود » ، أو : ليس بمتصل بي ومتحد معي ، من قولهم : فلان مني كأنه بعضه ، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة :
{ ومن لم يطعمه فإنه مني } أي : من لم يذقه ، وطعم كل شيء ذوقه ، ومنه التطعم ، يقال : تطعمت منه أي : ذقته ، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول ، تطعم منه يسهل أكله ، قال ابن الأنباري : العرب تقول : أطعمتك الماء تريد أذقتك ، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر :
وإن شئتُ لم أطعم نقاخاً ولا برداً
النقاخ : العذب ، والبرد : النوم ، ويقال : ما ذقت غماضاً .
طعام طعم » وفي الحديث : " ليس لنا طعام إلاَّ الأسودين : التمر والماء " والطعم يقع على الطعام والشراب ، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب ، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم ، لأن الطعم ينطلق على الذوق ، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب ، إذ يحصل بإلقائه في الفم ، وإن لم يشربه ، نوع راحة .
وفي قوله : { ومن لم يطعمه } دلالة على أن الماء طعام ، وقد تقدّم أيضاً ما يدل على ذلك .
واختلف في جريان الرِّبا فيه ، فقال الشافعي : لا يجوز بيع الماء بالماء متفاضلاً ، ولا يجوز فيه الأجل .
وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجوز ذلك .
وحكى ابن العربي : أن الصحيح من مذهب مالك جريان الرِّبا فيه .
وقال محمد بن الحسن : هو مما يكال ويوزن ، فعلى هذا لا يجوز عنده التفاضل .
وكأن قوله : { فمن شرب منه } يدل ظاهره على مباشرة الشرب من النهر ، حتى لو أخذ بالكوز وشربه ، لا يكون داخلاً في من شرب منه ، إذا لم يباشر الشرب من النهر ، وفي مذهب أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ، أنه إن قال إن شربت من القربة فعبدي حرّ ، يحمل على الكروع ، وإن اغترف منه ، أو شرب بإناء لم يحنث .
قالوا : لأنه تعالى حظر الشرب من النهر ، وحظر مع ذلك أن يطعم منه ، واستثنى من الطعم منه الاغتراف ، فحظرُ الشرب باقٍ ، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب ، وأتى بقوله : { ومن لم } معدّى لضمير الماء ، لا إلى النهر ، ليزيل ذلك الإبهام ، وليعلم أن المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر ، بمباشرة الشرب منه ، أو بواسطة .
قال ابن عطية : وفي قوله : { ومن لم يطعمه فإنه مني } سدّ الذرائع ، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ، ولهذه المبالغة ، لم يأت الكلام : ومن لم يشرب منه ، انتهى كلامه .
{ إلا من اغترف غرفة بيده } هذا استثناء من الجملة الأولى ، وهي قوله : { فمن شرب منه فليس مني } والمعنى : أن من اغترف غرفة بيده دون الكروع فهو مني ، والاستثناء إذا اعتقب جملتين ، أو جملاً ، يمكن عوده إلى كل واحدة منها ، فإنه يتعلق بالأخيرة ، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم أصول الفقه ، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه ، وهنا دل الدليل على تعلقها بالجملة الأولى ، وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء من الأولى لأن الجملة الثانية تدل عليها الأولى بالمفهوم ، لأنه حين ذكر أن الله يبتليهم بنهر ، وأن من شرب منه فليس منه ، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه فإنه منه ، فصارت الجملة الثانية كلاًّ فصل بين الأولى والاستثناء منها إذا دلت عليها الأولى ، حتى إنها لو لم يكن مصرحاً بها لفهمت من الجملة الأولى ، وقد وقع في بعض التصانيف ما نصه : إلاَّ من اغترف .
استثناءً من الأولى ، وإن شئت جعلته استثناء من الثانية . انتهى .
ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية لأنه حكم على أن : من لم يطعمه فانه منه ، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه ، والأمر ليس كذلك ، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه ، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى ، لأنه حكم فيها أن : من شرب منه فليس منه ، فيلزم في الاستثناء أن : من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه ، إذ هو مفسوح له في ذلك ، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتاً ، ومن الإثبات نفياً ، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة .
وفي الاستثناء محذوف تقديره : إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشرِبَها ، أو للشرب .
وقرأ الحرميان ، وأبو عمر ، و : غرفة ، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها ، فقيل : هما بمعنى المصدر ، وقيل : هما بمعنى المغروف ، وقيل : الغرفة بالفتح المرة ، وبالضم ما تحمله اليد ، فإذا كان مصدراً فهو على غير الصدر ، إذ لو جاء على الصدر لقال : اغترافة ، ويكون مفعول اغترف محذوفاً ، أي : ماء ، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولاً به ، قال ابن عطية : وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً : أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف . انتهى .
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي ، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية ، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة .
ويتعلق : بيده ، بقوله : اغتراف .
قيل : ويجوز أن يكون نعتاً لغرفة ، فيتعلق بالمحذوف .
وظاهر : غرفة بيده ، الاقتصار على غرفة واحدة ، وأنها تكون باليد ، قال ابن عباس ، ومقاتل : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها ، قال مقاتل : ويملأ منها قربته ، قيل : فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء ، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان .
قال بعض المفسرين : لم يرد غرفة الكف ، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك ، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم ، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظة ، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده ، فأين يصل منه ذلك ؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت ، مع إمكان ذلك فيه ، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان .
{ فشربوا منه إلا قليلاً منهم } أي : كرعوا فيه ، ظاهره أن الأكثر شربوا ، وإن القليل لم يشربوا ، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم ، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه ، ووقع به المخالفة ، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه ، فبقي تحت القليل قسمان : أحدهما : لم يطعمه ألبتة والثانية : الذين : اغترفوا بأيديهم ، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس ، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة .
فأما من شرب فلم يرو ، بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله ، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة .
وقيل : الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم ، فلم يرووا ، وبقوا على شط النهر ، وجبنوا عن لقاء العدو ، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح .
وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل الذين لم يشربوا .
والقليل المستثنى أربعة آلاف ، قاله عكرمة ، والسدّي ، وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر .
وقرأ عبد الله ، وأبيّ والأعمش : إلا قليلٌ ، بالرفع قال الزمخشري : وهذا من ميلهم مع المعنى ، والإعراض عن اللفظ جانباً ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلما كان معنى : فشربوا منه ، في معنى : فلم يطيعوه ، حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلاَّ قليل منهم .
( وعض زمان يا بن مروان ) لم يدع***
كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت ، أو مجلف انتهى كلامه .
والمعنى أن هذا الموجب الذي هو : فشربوا منه ، هو في معنى المنفي ، كأنه قيل : فلم يطيعوه ، فارتفع : قليل ، على هذا المعنى ، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد : إلاَّ ، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى ، فالموجب فيه كالمنفي ، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد : إلاَّ ، على التأويل هنا ، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب ، فلذلك تأوله .
ونقول : إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد : إلاَّ ، وجهان : أحدهما : النصب على الاستثناء وهو الأفصح : والثاني : أن يكون ما بعد : إلاَّ ، تابعاً لإعراب المستثنى منه ، إن رفعاً فرفع ، أو نصباً فنصب ، أو جراً فجر ، فتقول : قام القوم إلاَّ زيد ، ورأيت القوم إلاَّ زيداً ، ومررت بالقوم إلاَّ زيد : وسواء كان ما قبل : إلاَّ ، مظهراً أو مضمراً .
واختلفوا في إعرابه ، فقيل : هو تابع على أنه نعت لما قبله ، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة .
وقال : ينعت بما بعد : إلاَّ ، الظاهر والمضمر ، ومنهم من قال : لا ينعت به إلاَّ النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإن كان معرفة بالإضافة نحو : قام إخوتك ، أو بالألف واللام للعهد ، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس ، فلا يجوز الاتباع ، ويلزم النصب على الاستثناء .
ومنهم من قال : إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان ، ومن الاتباع بعد الموجب قوله :
وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو .
وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا نضطر إليه ، وأنه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب .
{ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } ظاهره أنه ما جاوز النهر إلاَّ هو والمؤمنون ، وكذلك روي عن ابن عباس ، والسدي : أن الذين شربوا وخالفوا انحرفوا ، ولم يجاوزوا ، وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل .
وجاوز : فاعل فيه بمعنى فعل ، أي جاز .
والذين آمنوا معه : عدة أهل بدر وقال ابن عباس ، والسدي : جاز معه أربعة آلاف .
قال ابن عباس : منهم من شرب ، قالا : فلما نظروا إلى جالوت وجنوده ، قالوا لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلاَّ غرفة .
ثم اختلفت بصائر هؤلاء ، فبعض كع ، وقليل صمم ، و : هو ، توكيد للضمير المستكن في جاوزه ، و : الذين ، يحتمل أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه ، والأظهر أن يكون للعطف وإدغام جاوزه في هو ضعيف ، ولا يستحسن ، إلاَّ ان كانت الهاء مختلسة لا إمالة لها .
{ قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } قائل ذلك الكفرة الذين انخذلوا ، وهو الفاعل في شربوا ، قاله ابن عباس والسدي .
وقيل : من قلت بصيرته من المؤمنين ، وهم الذين جاوزوا النهر وهم القليل ، قاله الحسن ، وقتادة ، والزجاج .
طاقة : من الطوق ، وهو القوة ، وهو من : أطاق ، كأطاع طاعة ، وأجاب جابة ، وأغار غارة .
ويتعلق : لنا ، بمحذوف إذ هو في موضع الخبر ، ولا يجوز أن يتعلق : بطاقة ، لأنه كان يكون طاقة مطولاً ، فيلزم تنوين ، واليوم منصوب بما تعلق به لنا وبجالوت : متعلق به .
وأجاز بعضهم أن يكون : بجالوت ، في موضع الخبر ، وليس المعنى على ذلك .
{ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } يحتمل أن يكون الظن على بابه ، ومعنى : ملاقو الله ، أي يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال ، وتصميمهم على لقاء أعدائهم ، كما جرى لعبد الله بن حزام في أحد ، وغيره ، قاله الزجاج في آخرين .
وقيل : ملاقو ثواب الله بسبب الطاعة .
لأن كل أحد لا يعلم عاقبة أمره فلا بد من أن يكون ظاناً ، وقيل : ملاقو طاعة الله ، لأنه لا يقطع أن عمله هذا طاعة ، لأنه ربما شابه شيء من الرياء والسمعة ، وقيل : ملاقو وعد الله إياهم بالنصر ، لأنه وإن كان مقطوعاً به فهو مظنون في المرة الأولى ، ويحتمل أن يكون الظن بمعنى الإيقان : أي : يوقنون بالبعث والرجوع إلى الله قاله السدي في آخرين .
{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله } .
هذا القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه ، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدّق الله .
والمعنى : أنا لا نكترث بجالوت وجنوده وإن كثروا ، فإن الكثرة ليست سبباً للانتصار ، فكثيراً ما انتصر القليل على الكثير ؛ ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية .
وعلموا بذلك ، أخبروا بصيغة : كم ، المقتضية للتكثير .
وقرأ أبيّ : وكأين ، وهي مرادفة : لكم ، في التكثير ، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوباً بمن ، ولو حذفت : من ، لأنجّر تمييز : كم ، الخبرية بالإضافة ، وقيل بإضمار : من ، ويجوز نصبه حملاً على : كم ، الإستفامية ، وانتصب تمييز : كأين ، فتقول كأين رجلاً جاءك .
و : كم ؛ في موضع رفع على الابتداء ، و : من فئة ، قيل زائدة ، وليس من مواضع زيادتها ، وقيل : في موضع الصفة لكم ، و : فئة ، هنا مفرد في معنى الجمع ، كأنه قيل : كثير من فئات قليلة غلبت .
وقرأ الأعشى فيه بابدال الهمزة ياء ، نحو : ميرة في : مئرة ، وهو ابدال نفيس ، وخبر : كم ، قوله : غلبت ، ومعنى : باذن الله ، بتمكينه وتسويفه الغلبة .
وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير ، وإن كانوا أضعاف أضعافهم ، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم ، وأما جواز الفرار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى .
{ والله مع الصابرين } ، تحريض على الصبر في القتال ، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه ، ينصره ويعينه ويؤيده ، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم ، ويحتمل أن يكون استئنافاً من الله ، قاله القفال .