البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك } ، ذا : اسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً ، ثلاثي الأصل ، لا أحادي الوضع ، وألفه ليست زائدة ، خلافاً للكوفيين والسهيلي ، بل ألفه منقلبة عن ياء ، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني .

ويقال فيه : ذا وذائه وهو يدل على القرب ، فإذا دخلت الكاف فقلت : ذاك دل على التوسط ، فإذا أدخلت اللام فقلت : ذلك دل على البعد ، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد .

فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب ، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد ، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً ، وقالوا : ألك في معنى ذلك ؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو .

{ الكتاب } ، يطلق بإزاء معان العقد المعروف بين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم } ، وعلى الفرض { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } { كتب عليكم القصاص } { كتب عليكم الصيام } وعلى الحكم ، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب الله كتاب الله أحق وعلى القدر :

يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني ***عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا

أي قدر الله وعلى مصدر كتبت تقول : كتبت كتاباً وكتباً ، ومنه كتاب الله عليكم ، وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب ، قال :

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ***أتتك من الحجاج يتلى كتابها

{ لا } نافية ، والنفي أحد أقسامها ، وقد تقدمت .

{ ريب } ، الريب : الشك بتهمة راب حقق التهمة قال :

ليس في الحق يا أمية ريب ***إنما الريب ما يقول الكذوب

وحقيقة الريب قلق النفس : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ومنه : أنه مر بظني خافق فقال لا يربه أحد بشيء ، وريب الدهر : صرفه وخطبه .

{ فيه } : في للوعاء حقيقة أو مجازا ، أو زيد للمصاحبة ، وللتعليل ، وللمقايسة ، ولموافقة على ، والباء مثل ذلك زيد في المسجد { ولكم في القصاص حياة } { ادخلوا في أمم } { لمسكم فيما أفضتم } { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } { في جذوع النخل } { يذرؤكم فيه } أي يكثركم به .

الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد ، وقد يوصل بياء ، وهي قراءة ابن كثير ، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتب النحو .

{ هدى } ، الهدى : مصدر هدي ، وتقدم معنى الهداية ، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه ، يقولون : هذه هدي حسنة ، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث .

وقال ابن عطية : الهدي لفظ مؤنث ، وقال اللحياني : هو مذكر .

انتهى كلامه .

قال ابن سيده : والهدي اسم من أسماء النهار ، قال ابن مقبل :

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة *** يخضعن في الآل غلفاً أو يصلينا

وهو على وزن فعلى ، كالسرى والبكى .

وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجئ من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة ، وليس بصحيح ، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت : لقيته لقى ، وأنشدنا لبعض العرب :

وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد *** بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا

وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين وفعل يكون جمعاً معدولاً وغير معدول ، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول ، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة ، مثل ذلك : جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم .

{ للمتقين } المتقي اسم فاعل من اتقى ، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس ، وافتعل هنا : للاتخاذ أي اتخذ وقاية ، وهو أحد المعاني الاثني عشر التي جاءت لها افتعل ، وهو : الاتخاذ ، والتسبب ، وفعل الفاعل بنفسه ، والتخير ، والخطفة ، ومطاوعة أفعل ، وفعل ، وموافقة تفاعل ، وتفعل ، واستفعل ، والمجرد ، والإغناء عنه ، مثل ذلك : اطبخ ، واعتمل واضطرب ، وانتخب ، واستلب ، وانتصف مطاوع أنصف ، واغتم مطاوع غممته ، واجتور ، وابتسم ، واعتصم ، واقتدر ، واستلم الحجر .

وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف .

وذلك اسم مشار بعيد ، ويصح أن يكون في قوله { ذلك الكتاب } على بابه فيحمل عليه ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا ، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب ، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن ، قاله ابن كيسان وغيره ، أو التوراة والإنجيل ، قاله عكرمة ، أو ما في اللوح المحفوظ ، قاله ابن حبيب ، أو ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من أنه ينزل إليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد ، قاله ابن عباس ، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق ، قاله عطاء بن السائب ، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل ، قاله ابن رئاب ، أو الذي لم ينزل من القرآن ، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه ، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها .

وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول : ذلك إشارة إلى الصراط في قوله : { اهدنا الصراط } ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب .

وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد ، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره ، لا إلى شيء لم يجر له ذكر ، وقد ركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } .

والذي نختاره منها أن قوله : { ذلك الكتاب } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار ، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار ، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن ، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف ، وأسوغها في لسان العرب .

ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرئ القيس ، وشعر الأعشى ، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات .

فكما أن كلام الله من أفصح كلام ، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه ، هذا على أنا إنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه ، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه ، فقالوا : يجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً .

وفي موضع خبر { الم } { ولا ريب } جملة تحتمل الاستئناف ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وأن تكون في موضع خبر لذلك ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر ، إذا كان الكتاب خبراً ، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد ، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين ، لأن الأول مفرد والثاني جملة ، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب ، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن ، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء ، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط ، هذا مذهب سيبويه .

وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا ، فعملت عنده النصب والرفع ، وتقرير هذا في كتب النحو .

وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب ، والفتح هو قراءة الجمهور .

وقرأ أبو الشعثاء : { لا ريب فيه } بالرفع ، وكذا قراءة زيد بن علي حيث وقع ، والمراد أيضاً هنا الاستغراق ، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى ، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه ، وصار نظير من قرأ : { فلا رفث ولا فسوق } بالبناء والرفع ، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم ، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم ، ويحتمل نفي الوحدة ، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم ، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر ، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا ، أو يكون عملها إعمال ليس ، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الاسم ونصبت الخبر ، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الاسم خاصة ، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الاسم معها ، وذلك في مذهب سيبويه ، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس ، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة .

وقرأ الزهري ، وابن محيصن ، ومسلم بن جندب ، وعبيد بن عمير ، فيه : بضم الهاء ، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل .

وقرأ ابن أبي إسحاق : فهو بضم الهاء ووصلها بواو ، وجوزوا في قوله : أن يكون خبراً للا على مذهب الأخفش ، وخبراً لها مع اسمها على مذهب سيبويه ، أن يكون صفة والخبر محذوف ، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عاملا من لفظ ريب فيتعلق به ، إلا أنه يكون متعلقاً بنفس لا ريب ، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه ، لأنه يصير اسم لا مطولاً بمعموله نحو لا ضارباً زيداً عندنا ، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، وهو هنا معلوم ، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب ، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإظهار ، وهي رواية اليزيدي عنه .

وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس ، ونفي الريب يدل على نفي الماهية ، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه ، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين .

فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة ، كما حمله الزمخشري ، ولا يرد علينا قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب } لاختلاف الحال والمحل ، فالحال هناك المخاطبون ، والريب هو المحل ، والحال هنا منفي ، والمحل الكتاب ، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفياً عن القرآن .

وقد قيد بعضهم الريب فقال : لا ريب فيه عند المتكلم به ، وقيل هو عموم يراد به الخصوص ، أي عند المؤمنين ، وبعضهم جعله على حذف مضاف ، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره .

وهذه التقادير لا يحتاج إليها .

واختيار الزمخشري أن فيه خبر ، وبذلك بنى عليه سؤالاً وهو أن قال : هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى : { لا فيها غول } وأجاب : بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد ، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب ، كما قصد في قوله : { لا فيها غول } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة .

وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ، ولا نعلم أحداً يفرق بين : ليس في الدار رجل ، وليس رجل في الدار ، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال ، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا ، قال علقمة بن عبدة :

تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها ***ولا يخالطها في الرأس تدويم

وأبعد من ذهب إلى أن قوله : لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب .

وجوزوا في قوله تعالى : { هدى للمتقين } أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ ، وفيه في موضع الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب ، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك ، وبقوله لا ريب فيه ، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً ، أو كان الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب ، أو في موضع نصب على الحال ، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم الإشارة ، أو الكتاب ، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه ، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد ، فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين ، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة .

والأولى : جعل كل جملة مستقلة ، فذلك الكتاب جملة ، ولا ريب جملة ، وفيه هدى للمتقين جملة ، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض .

فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل ، كما تقول : زيد الرجل ، أي الكامل في الأوصاف .

والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب .

والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين .

والمجاز إما فيه هدى ، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط ، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى ، كقوله :

إذا ما مات ميت من تميم***

والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك ، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر ؟ في ذلك خلاف .

وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين ، فحذف لدلالة أحد الفريقين ، وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم .

ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب ، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى ، هو الكتاب أي الكامل في الكتب ، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه { ما فرطنا في الكتاب من شيء } فإذا كان جميع الأشياء فيه ، فلا كتاب أكمل منه ، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى .

ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها ، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب ، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام ، إذ جعل القرآن ظرفاً والهدى مظروفاً ، فألحق المعنى بالعين ، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك : زيد في البيت :

5

/خ20