البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

يقال : لأن الشيء يلين ، فهو ليّن .

والمصدر : لين ولَيان بفتح اللام ، وأصله في الجرم وهو نعومته ، وانتفاء خشونته ، ولا يدرك إلا باللمس .

ثم توسعوا ونقلوه إلى المعاني .

الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً .

قال الشاعر في ابنة له :

أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ *** وكنت أخشى عليها من أذى الكلم

الغلظ : أصله في الجرم ، وهو تكثر أجزائه .

ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق والرحمة .

كما قال :

يبكي علينا ولا نبكي على أحد *** لنحن أغلظ أكباداً من الإبل

الانفضاض : التفرق .

وفضضت الشيء كسرتُه ، وهو تفرقة أجزائه .

{ فبما رحمة من الله لنت لهم } متعلق الرحمة المؤمنون .

فالمعنى : فبرحمة من الله عليهم لِنْت لهم ، فتكون الرحمة امتن بها عليهم .

أي : دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعدما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة ، وذلك برحمة الله إياهم .

وقيل : متعلق الرحمة المخاطب صلى الله عليه وسلم ، أي برحمة الله إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف ، فرحمتهم ولنت لهم ، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء ، ويكون ذلك امتناناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله على خلق عظيم ، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين ، بأن لينه لهم .

وما هنا زائدة للتأكيد ، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف ، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان ، مقرر في علم العربية .

وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة ، ورحمة بدل منها .

كأنه قيل : فبشيء أبهم ، ثم أبدل على سبيل التوضيح ، فقال : رحمة .

وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة .

وقيل : ما هنا استفهامية .

قال الرازي : قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز ، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أنَّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه .

وما قاله المحققون : صحيح ، لكنَّ زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلاً عن مَنْ يتعاطى تفسير كلام الله ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب .

ثمّ إنَّ تقديره ذلك : فبأي رحمة ، دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطأ من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي إسحاق .

والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً ، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بدّ من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه .

قول الزجاج في ما هذه ؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين .

{ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه .

وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرّقوا من حولك هيبة منك وحياءً ، فكان ذلك سبباً لتفرّق كلمة الإسلام وضعف مادته ، وإطماعاً للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله تعالى .

وقال تعالى في حق الكفار : { واغلظ عليهم } وفي وصفه صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق .

والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعاً للتأكيد .

وقيل : الفظاظة الجفوة قولاً وفعلاً .

وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلباً لا يلين ولا يتأثر ، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره .

{ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } أمره تعالى بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصاً به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم .

وفيها فوائد تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي .

فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم ، فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح .

وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم يشاور أحداً منهم حصل في نفسه شيء ، ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وفيما ذا أمر أن يشاورهم .

قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ، ولذلك استشار في أسرى بدر .

وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على تريب زماني .

وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور انتهى .

وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكنْ هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض .

أمر أولاً بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه صلى الله عليه وسلم عليهم ، وعدم مؤاخذته .

ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وسلم ورضا الله تعالى .

ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة .

والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمرٌ له بالعفو .

وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله .

قيل : فرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم .

وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات .

وقول بعضهم : إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة .

ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } ، أنه من المقلوب ، والمعنى : وليشاوروك في الأمر .

وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث والآثار .

وذكر ابن عطية : إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف له .

والمستشار في الدّين عالم دين ، وقلَّ ما يكون ذلك إلا في عاقل .

قال الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب وادفى المستشير انتهى كلام ابن عطية ، وفيه بعض تلخيص .

وقراءة الجمهور : في الأمر ، وليس على العموم .

إذ لا يشاور في التحليل والتحريم .

والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض .

وقرأ ابن عباس : في بعض الأمر { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي : فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعلْ تفويضك فيه إلى الله تعالى ، فإنه العالم بالأصلح لك ، والأرشد لأمرك ، لا يعلمه من أشار عليك .

وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه ، والفكر فيه .

وإن ذلك مطلوب شرعاً خلافاً لما كان عليه بعض العرب من : ترك المشورة ، ومن : الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة ، كما قال :

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه *** ونكب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير نفسه *** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

وقرأ الجمهور عزمت على الخطاب كالذي قبله .

وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق عزمت بضم التاء على أنها ضمير لله تعالى والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ويكون قوله على الله من باب الالتفات إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان فتوكل عليّ ونظيره في نسبة العزم إلى الله على سبيل التجوز قول أم سلمة ، ثم عزم الله { إن الله يحب المتوكلين } حث على التوكل على الله ، إذ أخبر أنّه يحب من توكل عليه ، والمرءُ ساعٍ فيما يحصل له محبة الله تعالى .

/خ159