البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

{ قل إنما أعظكم بواحدة } ، قال : هي طاعة الله وتوحيده .

وقال السدي : هي لا إله إلاّ الله .

قال قتادة : هي أن تقوموا .

قال أبو علي : { أن تقوموا } في موضع خفض على البدل من واحدة .

وقال الزمخشري : { بواحدة } : بخصلة واحدة ، وهو فسرها بقوله : { أن تقوموا } على أن عطف بيان لها . انتهى .

وهذا لا يجوز ، لأن بواحدة نكرة ، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله .

وعطف البيان فيه مذهبان : أحدهما : أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة ، وهو مذهب الكوفيين ، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب ، وإنما هو وهم من قائله .

وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله : { إن مقام إبراهيم }

عطف بيان من قوله : { آيات بينات } وذلك لأجل التحالف ، فكذلك هذا .

والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر ، والنهوض فيه بالهمة ، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين ، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده .

والمعنى : إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم ، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به .

وإنما قال : { مثنى وفرادى } ، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر ، وتخليط الكلام ، والتعصب للمذاهب ، وقلة الإنصاف ، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة ، فلا يوقف فيها على تحقيق .

وأما الاثنان ، إذا نظرا نظر إنصاف ، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له ، فلا يكاد الحق أن يعدوهما .

وأما الواحد ، إذا كان جيد الفكر ، صحيح النظر ، عارياً عن التعصب ، طالباً للحق ، فبعيد أن يعدوه .

وانتصب { مثنى وفرادى } على الحال ، وقدم مثنى ، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، إذا انقدح الحق بين الاثنين ، فكر كل واحد منهما بعد ذلك ، فيزيد بصيرة .

قال الشاعر :

إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة *** فيزداد بعض القوم من بعضهم علما

{ ثم تتفكروا } : عطف على { أن تقوموا } ، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما نسبوه إليه .

فإن الفكرة تهدي غالباً إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر ، والوقف عند أبي حاتم عند قوله : { ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } ، نفي مستأنف .

قال ابن عطية : وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم ، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين ، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به . انتهى .

واحتمل أن يكون تتفكروا معلقاً ، والجملة المنفية في موضع نصب ، وهو محط التفكر ، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلى الله عليه وسلم .

فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلاً ، وأثبتهم ذهناً ، وأصدقهم قولاً ، وأنزههم نفساً ، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز ، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل ، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب .

والظاهر أن ما للنفي ، كما شرحنا .

وقيل : ما استفهام ، وهو استفهام لا يراد به حقيقته ، بل يؤول معناه إلى النفي ، التقدير : أي شيء بصاحبكم من الجنون ، أي ليس به شيء من ذلك .

ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه { نذير } ، { بين يدي عذاب شديد } : أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به ، وبين يدي يشعر بقرب العذاب .