مثنى وثلاث ورباع : معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة .
ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد ، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود .
كقوله : ونفروا بعيراً بعيراً ، وفصلت الحساب لك باباً باباً ، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل .
والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو ، وأجاز الفرّاء أن تصرف ، ومنع الصرف عنده أولى .
وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام ، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام .
وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة ، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا .
وقال الزمخشري : إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكريرها .
وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه .
وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكرّرها ، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك ، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة : أحدها : ما نقلناه عن سيبويه .
والثاني : ما نقلناه عن الفراء .
والثالث : ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وأنه عدل عن التأنيث .
والرابع : ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه ، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه .
وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا يجوز : جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع ، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل .
فإذا قال : جاءني القوم مثنى ، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين .
فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدودون غيره .
فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى ، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب .
وقد ردّ الناس على الزجاج قوله : أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو ، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة ، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه ، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته .
وأما قوله : يعرفن بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، فهو معترض من وجهين : أحدهما : زعمه أنها تعرف بلام التعريف ، وهذا لم يذهب إليه أحد ، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات .
والثاني : أنه مثل بها ، وقد وليت العوامل في قوله : فلان ينكح المثنى ، ولا يلي العوامل ، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل ، ولا تقع إلا خبراً كما جاء : « صلاة الليل مثنى » أو حالاً نحو : { ما طاب لكم من النساء مثنى } أو صفه نحو : { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } وقوله :
ذئاب يبغى الناس مثنى وموحدا *** وقد تجيء مضافة قليلاً نحو ، قول الآخر :
بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر *** وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل على قلة ، وقد يستدل له بقول الشاعر :
ضربت خماس ضربة عبشمي *** أدار سداس أن لا يستقيما
ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث ، فلا تقول : مثناة ، ولا ثلاثة ، ولا رباعة ، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث .
عال : يعول عولاً وعيالة ، مال .
وعال الحاكم في حكمه جار ، وقال أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلم :
له شاهد من نفسه غير عائل *** وحكى ابن الأعرابي : أن العرب تقول : عال الرجل يعول كثر عياله .
ويقال : عال يعيل افتقر وصار عالة .
وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه : « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة .
وجماع القول في عال : أنها تكون لازمة ومتعدية .
فاللازمة بمعنى : مال ، وجار ، وكثر عياله ، وتفاقم ، وهذا مضارعه يعول .
وعال الرجل افتقر ، وعال في الأرض ذهب فيها ، وهذا مضارعه يعيل .
والمتعدية بمعنى أثقل ، ومان من المؤنة .
وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء ، تقول : عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً أعجزني ، وباقي المتعدّي من ذوات الواو .
{ وإن خفتم أَلاَّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت : « نزلت في أولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن .
قيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الاجنبيات اللواتي يماكسن في حقوقهن .
وقال عكرمة : نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه ، فقيل له : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا .
وقال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي : كانت العرب تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء ، يتزوجون العشرة فأكثر ، فنزلت في ذلك أي : كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء ، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه .
وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه ، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا ، وانكحوا على ما حد لكم .
وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور ، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصاً بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء .
والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن ، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم ، ونهوا عن الاستبدال المذكور ، وعن أكل أموال اليتامى ، كان في ذلك مزيد اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } فخوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي : في نكاح يتامى النساء ، فانكحوا غيرهن ، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى .
فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن .
وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال : أما بعد البلوغ فليست يتيمة ، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها .
خلافاً لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا : لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي ، فيندرج فيه البالغات ، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت ، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها ؟ والجواب : أن العدول إنما كان لأن الوليّ يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته ، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ .
ومعنى : خفتم حذرتم ، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر .
وقال أبو عبيدة : معنى خفتم هنا أيقنتم ، وخاف تكون بمعنى أيقن ، ودليله قول الشاعر :
فقلت لهم خافوا بألفي مدحج *** وما قاله لا يصح ، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن ، وإنما خاف من أفعال التوقع ، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين .
وقد روى ذلك البيت : فقلت لهم : ظنوا بألفي مدحج .
قال الراغب : الخوف يقال فيما فيه رجاء مّا ، ولهذا لا يقال : خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء ، أو نسف الجبال انتهى .
ومعنى أن لا تقسطوا أي : أن لا تعدلوا .
أي : وإن خفتم الجور وأقسط : بمعنى عدل .
وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط ، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار .
وقال الزجاج : ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل .
فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة ، أي : وإن خفتم أن تقسطوا أي : إن تجوروا ، لأن المعنى لا يتم إلا باعتقاد زيادتها .
وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا ، كانت للنفي كما في تقسطوا .
فقيل : ما بمعنى من ، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء ، وهو مذهب مرجوح .
وقيل : عبر بما عن النساء ، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء .
وقيل : ما واقعة على النوع ، أي : فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء ، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل .
وقال أبو العباس : ما لتعميم الجنس على المبالغة ، وكان هذا القول هو القول الذي قبله .
وقيل : ما مصدرية ، والمصدر مقدّر باسم الفاعل .
والمعنى : فانحوا النكاح الذي طاب لكم .
وقيل : ما نكرة موصوفة ، أي : فانكحوا جنساً أو عدداً يطيب لكم .
وقيل : ما ظرفية مصدرية ، أي : مدة طيب النكاح لكم .
والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله : فانكحوا ، وأنّ من النساء معناه : من البالغات .
ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى ، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي : كائناً من النساء ، ويكون في موضع الحال .
وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية ، فمفعول فانكحوا هو من النساء ، كما تقول : أكلتُ من الرغيف ، والتقدير فيه : شيئاً من الرغيف .
ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى ، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات .
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالإمالة .
وفي مصحف أبي طيب بالياء ، وهو دليل الإمالة .
وظاهر فانكحوا الوجوب ، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره .
وقال غيرهم : هو ندب لقوم ، وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة مندوب إليه .
ومعنى ما طاب : أي ما حل ، لأن المحرمات من النساء كثير قاله : الحسن وابن جبير وأبو مالك .
وقيل : ما استطابته النفس ومال إليه القلب .
قالوا : ولا يتناول قوله فانكحوا العبيد .
ولما كان قوله : ما طاب لكم من النساء عامّاً في الأعداد كلها ، خص ذلك بقوله : مثنى وثلاث ورباع .
فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أنَّ لنا أن أن نتزوج اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة ، ولا ما بعد ذلك من الاعداد .
وذلك كما تقول : أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره .
فلا يجوز لنا أن نعطي أحداً من المقسوم عليهم خمسة خمسة ، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو ، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور ، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء .
والواو تدل على مطلق الجمع ، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجميع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاؤوا متفقين فيها محظوراً عليهم ما زاد .
وذهب بعض الشيعة : إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد ، كما يجوز التسري بلا عدد .
وليست الآية تدل على توقيت في العدد ، بل تدل على الإباحة كقولك : تناول ما أحببت واحداً واثنين وثلاثاً .
وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين ، ولا يقتضي الاقتصار عليه .
وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع ، لأن الواو تقتضي الجمع .
فمعنى : مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثاً وأربعاً وذلك تسع ، وأكد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع .
وذهب بعضهم إلى أنَّ هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدلّ على نكاح جواز ثمانية عشر ، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين ، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر .
والكلام على هذه الأقوال استدلالاً وإبطالاً مذكور في كتب الفقه الخلافية .
وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع .
والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه ، أما مَن لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك ، والإجماع على خلاف ما دلّ عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور .
أجمع المسلمون على أنَّ مَن لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثاً وأربعاً كمن خاف .
فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك ، وحكمها أعم .
وقرأ النخعي وابن وثاب : وربع ساقطة الألف ، كما حذفت في قوله : وحلياناً برداً يريد بارداً .
وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعوله وتكون موصولة ، فانتصاب مثنى وما بعده على الحال منها ، وقال أبو البقاء : حال من النساء .
وقال ابن عطية : موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب ، وهي نكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفه انتهى .
أمّا الأوّل فلأن المحدث عنه هو ما طاب ، ومن النساء جاء على سبيل التبيين وليس محدثاً عنه ، فلا يكون الحال منه ، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات .
وأما الثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل ، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل .
وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرها العامل .
وأيضاً فإنه قال : إنها نكرة وصفة ، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعاً لنكرة كان صفة لها كقوله تعالى : { أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع } وما وقع صفة للنكرة وقع حالاً للمعرفة .
وما طاب معرفة فلزم أن يكون مثنى حالاً .
{ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } أي أن لا تعدلوا بين ثنتين إن نكحتموهما ، أو بين ثلاث أو أربع إن نكحتموهن في القسم أو النفقة أو الكسوة ، فاختاروا واحدة .
أو ما ملكت أيمانكم هذا إن حملنا فانكحوا على تزوجوا ، وإن حملناه على الوطء قدرنا الفعل الناصب لقوله : فواحدة .
فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم .
ويحتمل أن يكون من باب علفتها تبناً وماء بارداً على أحد التخريجين فيه ، والتقدير : فانكحوا أي تزوجوا واحدة ، أوطئوا ما ملكت أيمانكم .
ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد ، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهن لا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة .
وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز : فواحدة بالرفع .
ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر مقدر أي : فواحدة كافية .
ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي : فالمقنع ، أو فحسبكم واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم .
وأو هنا لأحد الشيئين : إما على التخيير ، وإما على الإباحة .
وروي عن أبي عمرو : فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء ، والمعنى : على هذا إن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه .
وقرأ ابن أبي عبلة : أو من ملكت أيمانكم ، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن .
ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله : « حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد ، والمأمور في تناول المأكول بالأكل بها ، والمنهي عن الاستنجاء بها .
وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل ، فأول الشرطين : وإن ختفم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فانكحوا .
صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد .
وثاني الشرطين قوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه : فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة ، أو تسرّ بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به ، والتعطف على النساء والنظر لهن .
وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد ، وجملة اعتراض .
فالشرط : وإن خفتم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فواحدة .
وجملة الاعتراض قوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، وكرر الشرط بقوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا .
لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه : كما جاء في فلما جاءهم ما عرفوا بعد قوله ، ولما جاءهم كتاب من عند الله إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت .
وكذلك { فلا تحسبنهم بمفازة } بعد قوله : { لا تحسبن الذين يفرحون } إذ طال الفصل بما بعده بين : لا تحسبن ، وبين بمفازة ، فأعيدت الجملة ، وصار المعنى على هذا التقدير ، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة .
قال : وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي .
ولعله لا يصح عنه ، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان ، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي ، وبطلان للأحكام الشرعية : لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة ، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة ، أو يتسرّى بما ملكت يمينه .
ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغواً لا فائدة له على زعمه .
والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا ، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان ، وهذا عدل في القسم والنفقة .
ولذلك نفيت هناك استطاعته ، وعلق هنا على خوف انتفائه ، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالباً .
وانتزع الشافعي من قوله : فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، خلافاً لأبي حنيفة ، إذ عكس .
ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري ، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة ، والحكمة سكون النفس بالأزواج ، وتحصين الدين ومصالح البيت ، وكل ذلك حاصل بالطريقين ، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري ، فوجب أن يكون أفضل من النكاح ، لأن الزائد على المتساويين يكون زائداً على المساوي الثاني لا محالة .
{ ذلك أدنى أن لا تعولوا } الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة .
أدنى من الدنو أي : أقرب أن لا تعولوا ، أي : أن لا تميلوا عن الحق .
قاله : ابن عباس ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وأبو مالك ، والسدّي .
وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي : معناه لا يكثر عيالكم .
وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكر بن داود والرازي ما معناه : غلط الشافعي ، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج .
وقال الزجاج : إن الله قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا ؟ وقال صاحب النظم : قال : أولاً أن لا تعدلوا فيجب أن يكون ضد العدل هو الجور ، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضاً الرد من جهة المعنى ، فتفسير الشافعي تعولوا بتعيلوا .
وقالوا : يقال أعال يعيل إذا كثر عياله ، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو ، فقد اختلفا في المادة ، فليس معنى تعولوا تعيلوا .
وقال الرازي أيضاً عن الشافعي : أنه خالف المفسرين .
وما قاله ليس بصحيح ، بل قد قال بمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم .
وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أن تعولوا وتعيلوا من مادة واحدة ، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد ، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد ، نحو قولهم : دمت ودشير ، وسبط وسبطة ، فكذلك هذا .
وقد نقل عال الرجل يعول ، أي كثر عياله ابن الأعرابي ، كما ذكرناه في المفردات .
ونقله أيضاً الكسائي قال : وهي لغة فصيحة .
قال الكسائي : العرب تقول : عال يعول ، وأعال يعيل كثر عياله ، ونقلها أيضاً أبو عمرو الدوري المقري وكان إماماً في اللغة غير مدافع قال : هي لغة حمير .
وإن الموت يأخذ كل حي *** بلا شك وأن أمشي وعالا
أمشي كثرت ماشيته ، وعال كثر عياله .
وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك : عال الرجل عياله يعولهم .
وقال : لا يظن به أنه حول تعيلوا إلى تعولوا ، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا .
قال : ولكن للعلماء طرقاً وأساليب ، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات .
وأما ما رد به ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية : هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح ، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة .
وقال الزمخشري : الغرض بالتزوج التوالد والتناسل ، بخلاف التسري .
ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن ، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج ، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع .
وقال القفال : إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً ، وتقل العيال .
أما إذا كانت حرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى .
وروي عن الشافعي أيضاً أنه فسر قوله تعالى : أن لا تعولوا بمعنى أن لا تفتقروا ، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر ، إنما يريد أيضاً الكناية ، لأن كثرة العيال يتسبب عنها الفقر .
والظاهر أن المعنى : أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور ، إذا هو المحذور المعلق على خوفه الاختيار المذكور .
أي : عبر عن قوله : أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم ، فإنه عبر عن المسبب بالسبب ، لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور .
وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء ، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله : { وإن خفتم عيلة } وقال الشاعر :
فما يدري الفقير متى غناه *** ولا يدري الغني متى يعيل
وقرأ طاوس : أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله ، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده .
وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف ، إذ التقدير : أدنى إلى أن لا تعولوا .
وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه .
تقول : دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا .
ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر ، لأنك تقول : دنوت لكذا .