البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

{ إذ يغشاكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربِط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } قال الزمخشري بدل ثان من { إذ يعدكم } أو منصوب بالنصر أو بما في { عند الله } من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكر انتهى .

أما كونه بدلاً ثانياً من { إذ يعدكم } فوافقه عليه ابن عطية فإنّ العامل في إذ هو العامل في قوله { وإذ يعدكم } بتقدير تكراره لأنّ الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف وإنما القصد أن يعدّد نعمه على المؤمنين في يوم بدر فقال واذكروا إذ فعلنا بكم كذا اذكروا إذ فعلنا كذا وأما كونه منصوباً بالنصر ففيه ضعف من وجوه : أحدها أنه مصدر فيه أل وفي إعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله ، الثاني أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو { إلا من عند الله } وذلك إعمال لا يجوز لا يقال ضرب زيد شديد عمراً ، الثالث أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل { إلا } في ما بعدها من غير أن يكون ذلك المفعول مستثنى أو مستنثى منه أو صفة له وإذ ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش ، وأما كونه منصوباً بما في { عند الله } من معنى الفعل فيضعفه المعنى لأنه يصير استقرار النصر مقيداً بالظرف والنصر من عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره وأما كونه منصوباً بما جعله الله فقد سبقه إليه الحوفيّ وهو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل { إلا } وليس أحد تلك الثلاثة ، وقال الطبري العامل في { إذ } قوله { ولتطمئن } .

قال ابن عطية : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفاً لما دلّ عليه { عزيز حكيم } وقد سبقه إلى قريب من هذا ابن عطية فقال : ولو جعل العامل في إذا شيئاً قرنها بما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في { إذ } { حكيم } لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل انتهى ، والأجود من هذه الأقوال أن يكون بدلاً .

وقرأ مجاهد وابن محيصن وأبو عمرو وابن كثير { يغشاكم النعاس } مضارع غشى و { النعاس } رفع به ، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع يغشيكم مضارع أغشى ، وقرأ عروة بن الزبير ومجاهد والحسن وعكرمة وأبو رجاء وابن عامر والكوفيون يغشيكم مضارع غشى و { النعاس } في هاتين القراءتين منصوب والفاعل ضمير الله وناسبت قراءة نافع قوله { يغشى طائفة منكم } وقراءة الباقين وينزل حيث لم يختلف الفاعل ومعنى يغشيكم يعطيكم به وهو استعارة جعل ما غلب عليهم من النعاس غشياناً لهم ، وتقدم شرح { النعاس } و { أمنة } في آل عمران والضمير في { منه } عائد على الله وانتصب { أمنة } ، قيل على المصدر أي فأمنتم أمنة والأظهر أنه انتصب على أنه مفعول له في قراءة يغشيكم لاتحاد الفاعل لأنّ المغشى والمؤمن هو الله تعالى ، وأما على قراءة { يغشاكم } فالفاعل مختلف إذ فاعل { يغشاكم } هو { النعاس } والمؤمن هو الله وفي جواز مجيء المفعول له مع اختلاف الفاعل خلاف ، وقال الزمخشري ، ( فإن قلت ) : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً ، قلت بلى ولكن لما كان معنى { يغشاكم النعاس } تتغشون انتصب { أمنة } على أن النعاس والأمنة لهم والمعنى إذ تتغشون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم و { منه } صفة لها أي { أمنة } حاصلة لكم من الله تعالى ، ( فإن قلت ) : هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو يغشاكم أي يغشاكم النعاس لأمنه على أنّ إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة أو على أنه أمانكم في وقته كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشياكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة من الله تعالى لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ، ( قلت ) : لا تتعدى فصاحة القرآن عن احتماله وله فيه نظائر ولقد ألمّ به من قال :

يهاب النوم أن يغشى عيونا *** تهابك فهو نفار شرود

وقرىء { أمنة } بسكون الميم ونظير أمن أمنة حيي حياة ونحو أمن من أمنة رحم رحمه ، والمعنى أنّ ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم فلما طامن الله تعالى قلوبهم أمنهم وأقروا ، وعن ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى وفي الصلاة وسوسة من الشيطان انتهى ، وعن ابن مسعود شبيه هذا الكلام وقال النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله تعالى وهو في الصلاة من الشيطان ، قال ابن عطية : وهذا إنما طريقة الوحي فهو لا محالة يسندها انتهى ، والذي قرأ { أمنة } بسكون الميم هو ابن محيصن ورويت عن النخعي ويحيى بن يعمر وغشيان النوم إياهم قيل حال التقاء الصفين ومضي مثل هذا في يوم أحد في آل عمران ، وقيل : الليلة التي كان القتال في غدها امتنّ عليهم بالنوم مع الأمر المهم الذي يرونه في غد ليستريحوا تلك الليلة وينشطوا في غدها للقتال ويزول رعبُهم ، ويقال : الأمن مُنيم والخوف مُسهر والأولى أن يكون ترتيب هذه الجمل في الزمان كترتيبها في التلاوة فيكون إنزال المطر تأخر عن غشيان النعاس ، وعن ابن نجيح أن المطر كان قبل النعاس واختاره ابن عطية قال ونزول الماء كان قبل تغشية النعاس ولم يترتب كذلك في الآية إذ القصد منها تعديد النعم فقط .

وقرأ طلحة { وينزّل } بالتشديد ، وقرأ الجمهور ماء بالمد ، وقرأ الشعبي ما بغير همز ، حكاه ابن جنّي ، صاحب اللوامح في شواذ القراءات ، وخرّجاه على أنّ ما بمعنى الذي ، قال صاحب اللوامح : وصلته حرف الجر الذي هو { ليطهركم } والعائد عليه هو ومعناه الذي هو { ليطهركم به } انتهى ، وظاهر هذا التخريج فاسد لأنّ لام كي لا تكون صلة ومن حيث جعل الضمائر هو وقال معناه الذي هو ليطهركم ولا تكون لام كي هي الصلة بل الصلة هو ولام الجر والمجرور ، وقال ابن جنّي ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره فكأنه قال ما للطهور انتهى .

وهذا فيه ما قلنا من مجيء لام كي صلة ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أنّ ما ليس موصولاً بمعنى الذي وأنه بمعنى ماء المحدود وذلك أنهم حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا ما يا هذا بحذف الهمزة وتنوين الميم فيمكن أن تُحرّج على هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين لأنك إذا وقفت على شربت ما قلت شربت ما بحذف التنوين وإبقاء الألف إما ألف الوصل الذي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة وإما الألف التي هي بدل من التنوين حالة النصب .

وقرأ ابن المسيّب { ليطهرّكم } بسكون الطاء ومعنى ليطهركم من الجنابات وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء وكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر ، وقيل بل المؤمنون سبقوا إلى الماء ببدر وكان نزول المطر قبل ذلك ، والمرويّ عن ابن عباس وغيره أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول الله ، وحالنا هذه ، والمشركون على الماء فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعةَ عشر من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهّروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل تلبدت قالوا فهذا معنى قوله { ليطهركم به } أي من الجنابات ويذهب عنكم رجز الشيطان أي عذابه لكم بوسواسه والرجز العذاب ، وقيل رجزه كيده ووسوته ، وقيل الجنابة من الاحتلام فإنها من الشيطان ، وورد ما احتلم نبي قط إنما الاحتلام يكون من الشيطان .

وقرأ عيسى بنُ عمرو { يذهب } بجزم الباء ، وقرأ ابن محيصن { رجز } بضم الراء وأبو العالية رجس بالسين ومعنى الربط على القلب هو اجتماع الرأي والتشجيع على لقاء العدو والصبر على مكافحة العدو والربط الشد هو حقيقة في الأجسام فاستعير منها لما حصل في القلب من الشدة والطمأنينة بعد التزلزل ، ومقتضى ذلك الربط قال ابن عباس الصبر ، وقال مقاتل الإيمان ، وقيل نزول المطر ، وهو الظاهر ، لأن قوله { ليطهّركم } وما بعده تعليل لإنزال المطر والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملاً تغوص فيه الأرجل فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام والضمير في { به } عائد على المطر ، وقيل التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال والضمير في { به } عائد على المصدر الدال عليه { وليربط } وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولاً منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة ، وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة ، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني ، وهو فعل محله القلب ، وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يقرّون وقت الحرب فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبيّ ظهر حرف التعليل وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولاً بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل ولأنه الذي تؤدي به أفضل العبادات وتحيا به القلوب .