البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التوبة

هذه السورة مدنية كلها ، وقيل : إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة ، وهذا قول الجمهور . وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة ، وخلافاً عن الصحابة : أهي والأنفال سورة واحدة ، أو سورتان ؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك ، فأخلينا كتابنا منه ، ويطالع ذلك في كتب المفسرين .

{ برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين }

ويقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ، ومنه برئت من الدين .

وارتفع براءة على الابتداء ، والخبر إلى الذين عاهدتم .

ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، أو على إضمار مبتدأ أي : هذه براءة .

وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب .

قال ابن عطية : أي الزموا ، وفيه معنى الاغراء .

وقال الزمخشري : اسمعوا براءة .

قال : ( فإن قلت ) : بم تعلقت البراءة ، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟ ( قلت ) : قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولاً ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم : إعلموا أنّ الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين .

وقال ابن عطية : لما كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لازماً لجميع أمته حسن أن يقول : عاهدتم .

وقال ابن إسحاق وغيره : كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية ، وأحل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده ، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر ، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي : يذهب فيها مسرحاً آمناً .

وظاهر لفظة من المشركين العموم ، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم .

وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين .

وقال مقاتل : المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب : خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة .

وقيل : هذه الآية في أهل مكة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عام الحديبية على أنْ يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، فدخلت خزاعة في عهد الرسول ، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش ، وكان لبني الديل من بني بكر دمٌ عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقوم أعانوهم بأنفسهم ، فهزمت خزاعة إلى الحرم ، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية ، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم ، فقدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم مستغيثين ، وأنشده عمرو فقال :

يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أباً وكنا ولدا ***

ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصراً عبدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا *** أبيض مثل الشمس ينمو صعدا

إن سيم خسفاً وجهه تريدا *** في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا***

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا *** وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالحطيم هجدا *** وقتلونا ركعاً وسجدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا نصرت إنْ لم أنصركم » فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان ، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف ، فجعل المشركون ينقضون عهودهم ، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم ، وأذن في الحرب