أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

شرح الكلمات :

{ لقد كان لسبأ في مسكنهم } : أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم .

{ آية } : أي علامة على قدرة الله وهى جنتان عن يمين وشمال .

{ بلدة طيبة ورب غفور } : أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها ، والله رب غفور .

المعنى :

لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته وذلك جزاء لكل كفور . فقال تعالى { لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال } أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار ، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ أربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان ، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . وقوله تعالى { في مسكنهم } أي في مساكنهم { آية } أي علامة على قدرة الله وإفضاله على عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادي أي جنتان عن يمين الوادي وأخرى عن مشاله كلها فواكه وخضر ، تسقى بماء سد مأرب . كلوا من رزق ربكم أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي هذا الإِنعام بالإِيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله .

وقوله { بلدة طيبة } أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها ، { ورب غفور } يغفر ذنوبكم متى أذنبتم وتبتم واستغفرتم . ولكن أَبْطَرْتُهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروا كما قال تعالى { فأعرضوا } .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

ولما دل سبحانه بقوله { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } الآية ، على قدرته على ما يريد من السماء والأرض لمعاملة{[56604]} من يريد ممن فيهما بما يشاء من فضل على من شكر ، وعدل فيمن كفر ، ودل على ذلك بما قصه من أخبار بعض أولي الشكر ، وختم بموت نبيه سليمان بن داود الشاكر بن الشاكر عليهما السلام ، وما كان فيه من الآية الدالة على أنه لا يعلم الغيب غيره لينتج ذلك أنه لا يقدر على كل ما يريد غيره ، وكان موت الأنبياء المتقدمين موجباً لاختلال{[56605]} من بعدهم لفوات آياتهم بفواتهم بخلاف آية القرآن ، فإنها باقية على مر الدهور والأزمان ، لكل إنس وملك وجان ، ينادي مناديها{[56606]} على رؤوس الأشهاد : هل من مبارٍ{[56607]} أو مضاد{[56608]} ؟ فلذلك حفظت هذه الأمة ، وضاع{[56609]} غيرها في أودية مدلهمة ، أتبعه دليلاً آخر شهودياً على آية { إن نشأ نخسف بهم الأرض } في قوم كان تمام صلاحهم بسليمان عليه الصلاة والسلام ، فاختل بعده أمرهم ، وصار من عجائب الكون ذكرهم ، حين ضاع شكرهم ، فكان من ترجمة اتباع قصتهم لما قبلها أن آل داود عليه السلام شكروا ، فسخر لهم من الجبال والطير والمعادن وغيرها ما لم يكن غيرهم يطمع فيه ، وهم أضاعوا الشكر فأعصى عليهم وأضاع منهم ما لم يكونوا يخافون فواته من مياههم وأشجارهم وغيرها ، فقال تعالى مشيراً بتأكيده{[56610]} إلى تعظيم ما كانوا فيه ، وأنه في غاية الدلالة على القدرة ، وسائر صفات الكمال ، وأن عمل قريش عمل من ينكر{[56611]} ما تدل عليه قصتهم من ذلك : { لقد كان لسبأ } أي القبيلة المشهورة التي كانت تسجد للشمس ، فهداهم الله تعالى على يد سليمان عليه السلام ، وحكمة تسكين قنبل همزتها{[56612]} الإشارة{[56613]} إلى ما كانوا فيه من الخفض والدعة ورفاهة العيش المثمرة للراحة والطمأنينة والهدوء والسكينة ، ولعل قراءة الجمهور لها بالصرف تشير إلى مثل ذلك ، وقراءة أبي عمرو والبزي عن ابن كثير{[56614]} بالمنع تشير إلى رجوعهم بما صاروا إليه من سوء الحال إلى غالب أحوال{[56615]} تلك البلاد في الإقفار و{[56616]}قلة النبت والعطش{[56617]} { في مسكنهم } أي{[56618]} التي هي في غاية الكثرة ، ووحد حمزة والكسائي وحفص عن عاصم{[56619]} إشارة إلى أنها{[56620]} لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد ، وكسر الكسائي الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملاءمة لهم واللين ، وفتحه الآخران إشارة{[56621]} إلى ما فيها{[56622]} من الروح والراحة ، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن ، قال حمزة الكرماني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : على ثلاث فراسخ من صنعاء ، وكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها المكتل{[56623]} وتطوف في ما بين الأشجار فيمتلىء المكتل من غير أن تمس شيئاً بيدها{[56624]} ، وكانت مياههم تخرج من جبل فبنوا فيه سداً وجعلوا له ثلاثة أبواب فكانوا يسرحون الماء إلى كرومهم من الباب الأعلى والأوسط والأسفل ، قال{[56625]} الرازي : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن مغزلتها ، فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من{[56626]} الثمار ، وقال أبو حيان في النهر{[56627]} : ولما ملكت بلقيس اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها ، وسكنت قصرها{[56628]} وراودوها{[56629]} على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعن أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ، ولا تطيعوني ، فقالوا نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل{[56630]} من مسيرة ثلاثة{[56631]} أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمسناة{[56632]} بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنا{[56633]} عشر مخرجاً على عدة أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية ، {[56634]}وقال المسعودي في مقدمات مروج الذهب قبل السيرة النبوية بيسير في الكلام على الكهان{[56635]} ، كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها ، وأعذبها وأغداها ، وأكثرها جناناً ، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال في العرض مثل ذلك ، يسير الراكب من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها ، لا تواجهه الشمس ولا يفارقها الظل ، لاستتار الأرض بالأشحار واستيلائها عليها وإحاطتها بها ، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفعه وأهنأ حال وأرغده ، في نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء ، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة ، ثم ذكر خبراً طويلاً في أخبارهم ، وخراب ما كان من آثارهم ، وتفرقهم في البلاد ، وشتاتهم بين العباد { آية } أي علامة ظاهرة على قدرتنا على ما نريد ، ثم فسر{[56636]} الآية بقوله : { جنتان } مجاورتان للطريق { عن يمين وشمال } أي بساتين متصلة وحدائق مشتبكة ، ورياض{[56637]} محتبكة ، حتى كان الكل من كل جانب جنة واحدة{[56638]} لشدة اتصال{[56639]} بعضه ببعض عن يمين كل سالك وشماله في أي مكان سلك من بلادهم ليس فيها موضع معطل ، وقال البغوي{[56640]} : عن يمين واديهم وشماله ، قد أحاط الجنتان بذلك الوادي .

وأشار الى كرم تلك الجنان وسعة ما{[56641]} بها من الخير بقوله : { كلوا } أي لا تحتاج بلادهم إلى غير أن يقال لهم : كلوا { من رزق ربكم } أي المحسن إليكم الذي أخرج لكم منها كل ما تشتهون { واشكروا له } أي خصوه{[56642]} بالشكر بالعمل بما أنعم به في ما يرضيه ليديم لكم النعمة ، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله : { بلدة طيبة } أي كريمة التربة{[56643]} حسنة الهواء سليمة من الهوام والمضار ، لا يحتاج ساكنها إلى ما يتبعه فيعوقه عن الشكر ، قال ابن زيد{[56644]} : لا يوجد فيها برغوث ولا بعوض ولا عقرب ولا حية ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم . وأشار إلى أنه لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره بقوله : { ورب غفور * } أي لذنب من شكره وتقصيره بمحو عين ما قصر فيه وأثره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب ، ولولا ذلك{[56645]} ما أنعم عليكم بما أنتم فيه ولأهلككم بذنوبكم ، وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء اليمن - قال : في بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار در - تلي بلاد الشام ، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكا وليس له نوى أصلاً .


[56604]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بمعاملة.
[56605]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لاختلاف.
[56606]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: منادى.
[56607]:من مد، وفي الأصل وظ وم: مبارز.
[56608]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: معاند.
[56609]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: صلع.
[56610]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بتأكيدها.
[56611]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يشكر.
[56612]:راجع نثر المرجان 5/462.
[56613]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: إشارة.
[56614]:راجع نثر المرجان 5/462.
[56615]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الأحوال.
[56616]:في م ومد: العطش وقلة النبت.
[56617]:في م ومد: العطش وقلة النبت.
[56618]:سقط من ظ.
[56619]:راجع نثر المرجان 5/462.
[56620]:زيد من ظ وم ومد.
[56621]:زيد من ظ وم ومد.
[56622]:من مد، وفي الأصل وظ وم: فيهما.
[56623]:في ظ وم ومد: مكتلا.
[56624]:ذكره الأندلسي في البحر المحيط 7/270 عن ابن عباس وغيره.
[56625]:في ظ: وقال، ومن هنا انقطعت صفحة واحدة من الأصل فملأناها من ظ.
[56626]:زيد من م ومد.
[56627]:راجع هامش البحر المحيط 7/268.
[56628]:من م ومد والنهر، وفي ظ: فصترها ـ كذا.
[56629]:من م ومد والنهر. وفي ظ: رودوها.
[56630]:من م ومد والنهر، وفي ظ: السير.
[56631]:في النهر: ثلاث ـ خطأ.
[56632]:في النهر: بمساءة.
[56633]:من مد والنهر، وفي ظ وم: اثني.
[56634]:العبارة من هنا إلى "بين العباد" ص 477 س 7 ساقطة من م.
[56635]:راجع 1/341.
[56636]:من م ومد، وفي ظ: بسر.
[56637]:من م ومد، وفي ظ: بأرض.
[56638]:من م ومد، وفي ظ: واحد من كل ـ كذا.
[56639]:من م ومد، وفي ظ: اتصالها.
[56640]:في معالم التنزيل ـ راجع هامش اللباب 5/236.
[56641]:زيد من م ومد.
[56642]:من م ومد، وفي ظ: خصوا.
[56643]:من م ومد، وفي ظ: التربية.
[56644]:ذكر قوله في البحر المحيط 7/270.
[56645]:زيد من م ومد.