{ قانت آناء الليل } : أي مطيع لله آناء الليل أي ساعات الليل ساجداً وقائما في الصلاة .
{ إنما يتذكر أولوا الألباب } : أي يتعظ بما يسمع من الآيات أصحاب العقول النيِّرة .
يقول تعالى { أمنَّ هو قانت } أي مطيع لله ورسوله في أمرهما ونهيهما { آناء الليل } أي ساعات الليل تراه ساجداً في صلاته أو قائماً يتلو آيات الله في صلاته ، وفي نفس الوقت هو يحذر عذاب الآخرة ويسأل الله تعالى في يقيه منه ، ويرجو رحمة ربّه وهي الجنة أن يجعله الله من أهلها أهذا خير أم ذلك الكافر الذي قيل له تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، والجواب معلوم للعقلاء وقوله تعالى { هل يستوي الذين يعلمون } محاب الله ومكارهه وهم يعملون على الإِتيان بمحابّ الله تقرباً إليه ، وعلى ترك مكارهه تحبُباً إليه ، هل يستوي هؤلاء العاملون مع الذين لا يعلمون ما يحب وما يكره فهم يتخبطون في الضلال تخبط الجاهلين ؟ والجواب لا يستوون وإنما يتذكر بمثل هذا التوجيه الإِلهي والإِرشاد الرباني أصحاب الألباب أي العقول السليمة الراجحة .
1- مقارنة بين القانت المطيع ، والعاصي المضل المبين ، وبين العالم والجاهل ، وتقرير أفضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي . وأفضلية العالم بالله وبمحابه ومكارهه والجاهل بذلك .
2- فضل العالم على الجاهل لعمله ولولا العمل بالعلم لاستويا في الخسّة والانحطاط .
{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } :
هذه مقابلة بين العامل بطاعة اللّه وغيره ، وبين العالم والجاهل ، وأن هذا من الأمور التي تقرر في العقول تباينها ، وعلم علما يقينا تفاوتها ، فليس المعرض عن طاعة ربه ، المتبع لهواه ، كمن هو قانت أي : مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلاة ، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل ، فوصفه بكثرة العمل وأفضله ، ثم وصفه بالخوف والرجاء ، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة ، على ما سلف من الذنوب ، وأن متعلق الرجاء ، رحمة اللّه ، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن .
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي ، وما له في ذلك من الأسرار والحكم { وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } شيئا من ذلك ؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء ، كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء والظلام ، والماء والنار .
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ } إذا ذكروا { أُولُو الْأَلْبَابِ } أي : أهل العقول الزكية الذكية ، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى ، فيؤثرون العلم على الجهل ، وطاعة اللّه على مخالفته ، لأن لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب ، بخلاف من لا لب له ولا عقل ، فإنه يتخذ إلهه هواه .
قوله تعالى : " أمن هو قانت آناء الليل " بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره . وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي " أمن " بالتشديد . وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة : " أمن هو " بالتخفيف على معنى النداء ، كأنه قال يا من هو قانت . قال الفراء : الألف بمنزلة يا ، تقول : يا زيد أقبل وأزيد أقبل . وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين ، كما قال أوس بن حجر :
أبَنِي لُبَيْنَى لستُم بيدٍ *** إلا يدا ليست لها عَضُدُ
أدارًا بِحُزْوَى هِجْتِ للعين عَبْرَةً *** فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
فالتقدير عل هذا " قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار " يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ، كما يقال في الكلام : فلان لا يصلي ولا يصوم ، فيا من يصلي ويصوم أبشر ، فحذف لدلالة الكلام عليه . وقيل : إن الألف في " أمن " ألف استفهام أي " أمن هو قانت آناء الليل " أفضل ؟ أم من جعل لله أندادا ؟ والتقدير الذي هو قانت خير . ومن شدد " أمن " فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير " أمن هو قانت " فالجملة التي عادلت أم محذوفة ، والأصل أم من فأدغمت في الميم . النحاس : وأم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي . والتقدير : أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر . وفي قانت أربعة أوجه : أحدها : أنه المطيع . قاله ابن مسعود . الثاني : أنه الخاشع في صلاته . قاله ابن شهاب . الثالث : أنه القائم في صلاته . قاله يحيى بن سلام . الرابع : أنه الداعي لربه . وقول ابن مسعود يجمع ذلك . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل ) وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال : ( طول القنوت ) وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام . وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال : ما أعرف القنوت إلا طول القيام ، وقراءة القرآن . وقال مجاهد : من القنوت طول الركوع وغض البصر . وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم ، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم ، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين . قال النحاس : أصل هذا أن القنوت الطاعة ، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل ، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها ، كما قال نافع : قال لي ابن عمر : قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق ، فدعاني فقال لي : أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضى هكذا ؟ فقلت : كنت أتزين قال : فالله أحق أن تتزين له . واختلف في تعيين القانت ها هنا ، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه : هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . وقال ابن عمر : هو عثمان رضي الله عنه . وقال مقاتل : إنه عمار بن ياسر . الكلبى : صهيب وأبو ذر وابن مسعود . وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال . " آناء الليل " قال الحسن : ساعاته : أوله وأوسطه وآخره . وعن ابن عباس : " آناء الليل " جوف الليل . قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ، ويرجو رحمة ربه . وقيل : ما بين المغرب والعشاء . وقول الحسن عام . " يحذر الآخرة " قال سعيد بن جبير : أي عذاب الآخرة . " ويرجو رحمة ربه " أي نعيم الجنة . وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا متمن . ولا يقف على قوله : " رحمة ربه " من خفف " أمن هو قانت " على معنى النداء ؛ لأن قوله : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر ، على ما تقدم بيانه .
قوله تعالى : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . وقال غيره : الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به ، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم . " إنما يتذكر أولو الألباب " أي أصحاب العقول من المؤمنين .
ولما أرشدت " أم " قطعاً في قراءة من شدد إدغاماً لإحدى الميمين في الأخرى أن التقدير شرحاً لأحوال المؤمنين بعد أحوال المشركين : أهذا - الذي يدعو الله مرة ، وغيره ممن يجعله له نداً أخرى - أسد طريقة وأقوم قيلاً : { أمّن هو } والتقدير في قراءة نافع وابن كثير وحمزة بالتخفيف : أمن هو بهذه الصفة خير أم ذلك الكافر الناسي لمن أحسن إليه ، ويرجح التقدير بالاستفهام دون النداء إنكار التسوية بين العالم الذي حداه علمه على القنوت والذي لا يعلم حقيقة أو مجازاً لعدم الانتفاع بعلمه { قانت } أي مخلص في عبادة الله تعالى دائماً { آناء الّيل } أي جميع ساعاته .
ولما كان المقام للإخلاص ، وكان الإخلاص أقرب مقرب إلى الله لأنه التجرد عن جميع الأغيار ، وكان السجود أليق الأشياء بهذا الحال ، ولذلك كان أقرب مقرب للعبد من ربه ، لأنه خاص بالله تعالى ، قال : { ساجداً } أي وراكعاً ، ودل على تمكنه من الوصفين بالعطف فقال : { وقائماً } أي وقاعداً ، وعبر بالاسم تنبيهاً على دوام إخلاصه في حال سجوده وقيامه ، والآية من الاحتباك : ذكر السجود دليلاً على الركوع والقيام دليلاً على القعود ، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن السجود يدل على العبادة ، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة ، وذلك مع الإيذان بأنهما أعظم الأركان ، فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين الآخرين لأن القعود إنما هو للرفق بالاستراحة ، والركوع إنما أريد به إخلاص الأركان للعبادة ، لأنه لا يمكن عادة أن يكون لغيرها ، وأما السجود فيطرقه احتمال السقوط والقيام والقعود مما جرت به العوائد ، فلما ضم إليهما الركوع تمحضاً للخضوع بين يدي الملك العليم العزيز الرحيم .
ولما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان ، وكان ذلك في محل الغفران ، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان ، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول : ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد : { يحذر الآخرة } أي عذاب الله فيها ، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه . ولما ذكر الخوف ، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال : { ويرجوا رحمة ربه } أي الذي لم يزل يتقلب في إنعامه .
ولما كان الحامل على الخوف والرجاء والعمل إنما هو العلم النافع ، وكان العلم الذي لا ينفع كالجهل أو الجهل خير ، كان جواب ما تقدم من الاستفهام : لا يستويان ، لأن المخلص عالم والمشرك جاهل . فأمره بالجواب بقوله : { قل } أي لا يستويان ، لأن الحامل على الإخلاص العلم وعلى الإشراك الجهل وقلة العقل ، ثم أنكر على من يشك في ذلك فقل له : { هل يستوي } أي في الرتبة { الذين يعلمون } أي فيعملون على مقتضى العلم ، فأداهم علمهم إلى التوحيد والإخلاص في الدين { والذين لا يعلمون } فليست أعمالهم على مقتضى العلم إما لجهل وإما لإعراض عن مقتضى العلم فصاروا لا علم لهم لأنه لا انتفاع لهم به لأنهم لو تأملوا أدنى تأمل مع تجريد الأنفس من الهوى لرجعوا إليه من أنه لا يرضى أحد أصلاً لعبده أن يخالف أمره ، وإلى أنه لا يطلق العلم إلا على العامل أرشد قول ابن هشام في السيرة
( ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا }[ آل عمران : 188 ] أن يقول الناس : علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا حق .
ولما كان مدار السداد التذكر . وكان مدار التذكر الذي به الصلاح والفساد هو القلب لأنه مركز العقل الذي هو آلة العلم ، وكان القلب الذي لا يحمل على الصلاح عدماً ، بل العدم خير منه ، قال : { إنما يتذكر } أي تذكراً عظيماً بما أفهمه إظهار التاء فيعلم أن المحسن لا يرضى بالإحسان إلى من يأكل خيره ويعبد غيره { أولوا الألباب * } أي العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون آخر آل عمران بقوله تعالى :{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم }[ آل عمران : 191 ] إلى آخرها ، وما أحسن التعبير هنا باللب الذي هو خلاصة الشيء لأن السياق للإخلاص ، قال الرازي في اللوامع : قال الإمام محمد بن علي الترمذي : خلق الله تعالى الأشياء مسخرة للآدمي ، وخلق الآدمي للخدمة ، ووضع فيه أنواره ليخرج الخدمة لله تعالى من باطنه بالحاجة ، فالآدمي مندوب إلى العلم بالله تعالى وبأوامره حسب ما خلق له ، والخدمة والقنوت بقلبك بين يديه ماثلاً منتصباً محقاً مبادراً مسارعاً سائقاً مركبك في جميع أمورك بالحب له ، وعلم الخدمة علم البساطين : بساط القدرة وبساط العبودة فإذا طالعت بساط القدرة بعقل وافر وهو أن تعرف نفسك وتركيبك من روحاني وجسماني ، وطالعت بساط العبودة بكياسة تامة أدركت تدبيره في العبودة وباطن أمره ونهيه وعلل التحريم والتحليل ، وبسط الله بساط الربوبية من باب القدرة ، وبسط بساط العبودة من باب العظمة ، ثم كان آخر خلقه سبحانه هذا الإنسان الذي بسط له هذين البساطين ، وجمع فيه العالمين ، وزاد على ما فيهما من قبول الأمر اختياراً وطوعاً ، وكل شيء أعطاك إنما أعطاك لتبرزه إلى جوارحك ، وتستعمله فيما خلق له ، فلو لم يعطك منك لم يطلب منك ، فلا تطلب الزكاة ممن لا مال له ، ولا الصلاة قياماً ممن لا رجل له .