{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا } : يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم والتوريث عبارة عن أن الله أعطاهم الكتاب بعد غيرهم من الأمم .
{ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه العاصي والسابق التقي والمقتصد بينهما وقال الحسن : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته وجميعهم يدخلون الجنة وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ) وقيل : الظالم الكافر والمقتصد المؤمن العاصي والسابق التقي فالضمير في منهم على هذا يعود على العباد وأما على القول الأول فيعود على { الذين اصطفينا } وهو أرجح وأصح لوروده في الحديث ، وجلالة القائلين به ، فإن قيل : لم قدم الظالم ووسط المقتصد وأخر السابق ؟ فالجواب : أنه قدم الظالم لنفسه رفقا به لئلا ييئس وأخر السابق لئلا يعجب بنفسه ، وقال الزمخشري : قدم الظالم لكثرة الظالمين وأخر السابق لقلة السابقين .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } .
المراد بالكتاب في الآية ، كل كتاب أنزله إلى عباده . وقيل : المراد به القرآن الحكيم ؛ فقد اصطفى الله من عباده هذه الأمة المباركة الفضلى ؛ لتقوم بكتابه الحكيم فتبشر الناس بعلومه وأخباره وأحكامه ، وما تضمنه للعالمين من منهج قويم تهتدي به البشرية ، لتحيى به آمنة مطمئنة ، مبرأة من الأمراض والمفاسد والشرور ، ثم قسَّم الله هذه الأمة من حيث احتمالها لكتابه الحكيم ومدى التزامها بشريعته وأحكامه فجعلهم أصنافا ثلاثة .
أما الصنف الأول : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } واختلفوا في تأويله . فقيل : ذلكم المفرِّط في دينه ، المخالف أمر ربه . وقيل : الكافر أو الفاسق . وقيل : هو المؤمن العاصي . وهو الأولى بالصواب ؛ لأن الكافرين المفرطين الفاسقين عن أمر الله لا يكونون في زمرة المسلمين الذين اصطفاهم الله لحمل كتابه وتبليغه للناس .
وأما الصنف الثاني : { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } عرّفه ابن كثير رحمه الله بقوله : هو المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات .
وأما الصنف الثالث : { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وهو الذي يفعل الواجبات والمندوبات ولا يأتي المناهي والمكروهات قال ابن عباس في تأويل قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الآية : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورَّثهم الله كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقُهم يدخلُ الجنة بغير حساب .
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال في ذلك : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب . وثلث يحاسَبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول ما هؤلاء – وهو أعلم تبارك وتعالى – فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يُشركوا بك فيقول الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي .
قوله : { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } { ذَلِكَ } ، في موضع رفع مبتدأ . وخبره { الْفَضْلُ } و { هو } ضمير فصل بين المبتدأ وخبره . و { الْكَبِيرُ } صفة للخبر . ويجوز أن يقال : { ذَلِكَ } ، مبتدأ أول . و { هو } مبتدأ ثان . و { الفضل } خبر المبتدأ الثاني . والمبتدأ الثاني وخبره ، خبر عن المبتدأ الأول{[3871]} .
والمعنى : أن إيتاء الكتاب لهذه الأمة فضل كبير من الله لهم . ما وعدهم الله به جميعا من الجنة له فضل من الله كبير . وقيل : الإشارة عائدة إلى السابق بالخيرات . فسَبْقُهُ بالخيرات وما أعده الله له من عظيم الجزاء لهو فضل من الله كبير فٌضِّلَ به على من دونه في المنزلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.